حوار مع الدكتور عبد الرزاق بلعقروز، الفكر بين عوالم الفلسفة ومدارات الحكمة ...

بداية، ممتنون لرحابة صدرك وسعة قلبك بروفيسور عبد الرزاق بلعقروز على قبولكم إجراء هذا الحوار والنقاش الفكري، وانتزاع قدرٍ ثمينٍ من وقتكم في ظلّ انشغالاتك البحثية والأكاديمي.[1]

 1- أوّل سؤال مبدئي ينقدح في ذهن الناظر في صنوف مؤلفاتكم أنّها تدوزِن إيقاعها خارج نغمة الانبهار بمقولات الحداثة أو الانحسار في ترديد مقولات الأصالة، بل تغامرُ في ولوجِ تخومِ أسئِلة الديني/الدنيوي، والمحلّي/الكوني بتجاوز الثنائيات الصلبة بين الذات والآخر، وبالتوكؤ على عدّة معرفية ومنهجية حداثية مصاحَبة مع وعيٍ نقدي لقبليّات تلك المناهج، ومنفتحة في الآن ذاته على ذخائر الفكر العربي الإسلامي، ما دوافع هذه الاختيارات البحثية لدى البروفيسور بلعقروز، وما انتظاراتها الوجودية والمعرفية التي يمكن أن تفيَ بها؟

   أطيب تحية إليك الأستاذ مصطفى على هذه الحوارية الفكرية التي فتحت لنا نافذة التواصل مع مجلتكم الفلسفية المتينة، مجلة النقطة الزرقاء؛كما أشكرك على هذه الأسئلة التي تعكس اطلاعا على ما أكتب وأحاور؛ ونفاذا إلى بنية النُّصوص ومكاشفة لمحركاتها المعرفية وسيماتها المنهجية؛ وهذا ما يظهر لنا في السُّؤال الأول، لقد وصفتم نمط اشتغالي وصفا دقيقا، من أنه وعي بأهمية التفكير والاشتباك وإعادة الحوار مع المفاهيم التراثية والمفاهيم الحداثية سواء بسواء؛ إن دوافعي في هذا الاختيار الفكري، عديدة، منها الدَّافع المعرفي، الذي يكمن في طبيعة التَّفلسف الحقيقي؛ بما هو تفكير منفتح على مصادر المعرفة المتنوعة؛ الموروثة في السياق الغربي، والموروثة في السياق الإسلامي، والمعاصرة في كلا السياقين أيضا؛ تفكير يبحث في الأفكار التي أبني بها نظام التفكير، وهذا لأن المعرفة الفلسفية ليست معرفة منبتَّة عن أصولها، فأنت تجد فيلسوف مثل هيرقليطس اليوناني، مصدرا ملهما لعديد الفلاسفة مثل هيجل ونيتشه وادغار موران؛ وعليه، أقررت بأن انفتح بدوري على المصادر الملهمة في الثقافة العربية الإسلامية ولا أقطع معها، رغم أن مساري الأكاديمي كان حول الفلسفة الغربية المعاصرة؛ فوجدت في نصوص أبي الحسن العامري والمحاسبي و الراغب الاصفهاني و ابن عربي وغيرهم؛ منابع قوية للتفلسف العميق بخاصة حول المشكلات الوجودية والمشكلات النفسية و الأوصاف الأخلاقية. وارتكازا على هذا، فإنني اعتبر أن العقل الفلسفي  الذي يتغذَّى على المفاهيم التراثية بمعزل عن المفاهيم الحداثية، هو عقل مقصوص أكثر منه عقل مرصوص، بمعنى يسرد الأفكار ويسترجع المقولات من غير الاقتدار على إعادة البناء والتبادل بما يجيب عن الأسئلة الحية في الحياة. أما المبرر المنهجي، فإنني أجده دوما قوة منهجية في سيرورة التفكير و النَّقد، فأن تقرأ نصوصا لأبي الحسن العامري، فإنك أمام منهجية متينة تُعَلُّم الفكر طريقة العرض و الاعتراض أو تعلمه النّقد المنهجي والتَّشابك المثمر مع الآراء الفلسفية؛ والأمر عينه مع فلاسفة آخرين مثل ديكارت و بيكون وجاك ماريتان وإدغار موران وغيرهم، دوما أجد أدوات منهجية أستعين بها في ورشة أشغالي الفكرية، وأما المبرر الرَّاهني ، فهو يأتي من تعقد منظومة الواقع ومنظومة الفكر، وتداخل المصائر الإنسانية؛ حيث نرى ثورات في العلوم والفلسفات، وانقلابات  في رؤى العالم، هذه المتغيّرات تفرض علينا تجديد الرُّؤية بقواعد التّفكير؛ وقواعد المعاملة، وقواعد التَّواصل؛ وهذا التجديد لن يجدي معه الاستلهام من علم واحد أو منظور واحد، بل يلزم المِران و الدُّربة على صهر المفاهيم الفكرية الإسلامية و الغربية في نموذج معرفي يمكِّن من قراءة العالم وبناء الاقتدار على رفع التحديات العالمية، وهذا المنهج في التفكير، هو الأصعب، لأنه لا يفكر من أجل الحجاج على صلاحية رؤية دون أخرى، وإنما هو نمط من المكابدة الاجتهادية والاستيعاب النقدي للمنجزات المعرفية التي تُفْصِحُ هي الأخرى عن منظورات واجتهادات فكرية. وقد سميت في أحد نصوص التفكير الذي يسكن ضمن نموذج أحادي ، بالتفكير الإنابي، أي التفكير الذي يستسلم فيه الباحث لفكرة أو لخط أو مدرسة، ينوبان عنه في الاجابة عن أسئلة الواقع ورفع التحديات الفكرية و الحضارية. إن مقابل التفكير الإنابي هو التفكير الاجتهادي، الذي أسعى لأن اتوسّل إجراءاته المنهجية في  السؤال والنقد و البحث.

2- تشكّلُ دعوتكم للانزياح من مدار "الفلسفة" إلى مدار "الحكمة" إحدى مفاتيح مشروعكم البحثي، ألا ترونَ أنّ مقولاتكم تُشاكلُ مشاريع أسلمة المعرفة التي يرى بعضُ الدارسين أنّها مشاريعُ ممتنعة على التحقّق، أو أنّها -في أحسن الأحوال- عرفت نجاحا جزئيا؟

  أولا، هناك فرق بين الحكمة الفلسفية و بين أسلمة المعرفة؛ فرق في سياق النشأة و التَّكوين، و فرق في الرؤية ومنهج المقاربة، فالحكمة هي موروث إنساني مبثوث في جلّ الفلسفات؛ تقوم على أعمدة ثلاثة: عِماد القول بمخلوقية العالم أو أنّه بلغة كلامية مخلوق حادث وليس قديم؛ وعِماد الإيمان بيوم المَعاد، المقابل لمنظور الصَّيرورة اللاَّمتناهية أو العود الأبدي للأشياء نفسها؛ وعِماد الإقرار بروحانية النَّفس وليس ماديتها، المقابل للعقل الاختزالي الذي يختزل ما هو نفسي في ماهو مادي؛ أما الأسلمة فهي جهد منهجي ينبني على، إجراء الفصل بين المفاهيم العلمية والفكرية و الفلسفية المبتكرة؛ وبين الأنساق الوضعية أو المادية التي خضعت لها، ومثال ذلك أن رفض المقالة الماركسية في تفسير العالم؛ لا يعني رفض التَّعليل الاقتصادي لحركة العمران الإنساني، ورفض الليبرالية أو النيوليبرالية لا يعني رفض الحرية كوصف إنساني حي، والاعتراض على الفلسفة الوضعية لا يعني رفض التَّحليل المنطقي للمفاهيم أو التعليل المادي للظواهر، وهكذا، و بالتالي فالأسلمة هي جهد ينبني على إجرائي : الحذف و الإضافة، حذف النّموذج الكلي و الاحتفاظ بإجرائية المفاهيم والتصورات. وإذ بان الفرق بينهما، فإنني اعتبر جهدي الفلسفي يجري في سياق الحكمة الفلسفية، الحكمة التي تؤمن بالغايات النهائية للإنسان، وتؤمن بأن الفلسفة تُعلم الإنسان أسلوب الحياة الروحية السامية، وتعلمه أيضا فنون التعامل الأخلاقي والتواصل الإنساني، الحكمة لا ترفض الدين انتصارا للمنظورات الوضعية، وإنما تفكر به كرؤية وجودية أو ثقافية للإنسان، إنها، أي الحكمة؛ لا تختزل مصادر الحقيقة في العلم الوضعي، وإنما تؤمن بأن القيم الروحية لها اعتبارها في التفكير و العلم أيضا، الحكمة الفلسفية فيها خطوط الالتقاء الفلسفي بين الثقافات العديدة، فيها القيم الإيمانية والقيم الروحية والإيمان بعوالم أخرى ممكنة، تتعدّى عوالم الوجود المحسوس. لذا عندما نلاحظ نزوع التفلسف نحو كتابة سير المفاهيم العلمية فيما يعرف بالإبستمولوجيا أو تاريخ العلوم، أو اختزال المعرفة الفلسفية في نقد المعاني الإيمانية، فإن هذا ليس من صميم التَّفلسف بمعناه الحِكَمي، إنه تضييق وحد للمعنى الأسمى للفلسفة، إنه المعنى الذي تتشابك فيه التَّفكُّرات العقلية بالتجارب الروحية، ليس فقط في دائرة الفلسفة كفرع معرفي وإنما يلامس العلوم الاجتماعية أيضا، إنها علوم لم تمسس الحياة الروحية للإنسان، لأنها خاضعة في تصوراتها إلى المناهج الوضعية في الرؤية و المنهج؛ وتتوهَّم أن علميتها مشروطة بملاحقة الخصائص الكمية والرياضية، وهذا خلل خطير بسببه لم تؤثر العلوم الاجتماعية في المجتمع؛ ولم تجلب له الصحة النَّفسية و العقلية. نحن بحاجة إلى تجديد ثوري في رؤيتنا للعلوم، تجديد يتأسس في منحاه العام على إدخال القيم باعتبارها غايات لهذه العلوم، وليست معيقات، فما هي الغاية من الفلسفة ؟ والغاية من علم النفس وعلم الاجتماع؟ لا توجد إجابات لدى المنهجية الوضعية العقلية الكمية؛ لأنها هدفها هو رصد ما يُكَمَّمُ ويُحْصىَ . بينما رد الاعتبار إلى الذكاء في مجال الروحيات، كفيل بأن يعيد رسم الوجه من جديد للعلوم و الفلسفات.

3- من ناحية أخرى، يلاحظ غياب الحركات العلمانية في الفضاء العربي عن نقد قبلياتها ولانزياح مركز القداسة من الله إلى الدولة، بحيث احتكرت هذه الأخيرة لنفسها جلَّ المغانم الماديّة والرمزية وأعادت تشكيل مدوّنة الأحوال الشخصية - خاصة ما تعلّق بالمرأة - في الدولة العربية الحديثة وفق انتظارات غربية حداثية، أدّت إلى الصدام مع الموروث الثقافي والديني وأفرغته من جوهره وحيويَّته عوضَ نقده واستلهام المساحات المضيئة فيه والبناء عليه. برأيكم ما هي إمكانات العلمنة في البلاد العربية الإسلامية، وما هي حدودها، وما رأيكم بمشروعات ما بعد العلمانية كما تم بسطها في مؤلفات "شارلز تايلور" و"كازانوفا" و"هابرمارس"؟

    لابد لنا هنا أن نميز كما قال ذلك خوسيه خازانوفا José Casanova (1951/....). ما بين : علماني، وعلمنة وعَلمانية، فالعَلماني هو الفضاء الذي يقابل الديني مثل السُّوق أو الفضاء العام، وعلمنة هي تجربة الحداثة الغربية في تطبيق هذا الفصل بين الديني و الدنيوي، بينما العلمانية هي إرادة خفية لأجل تحويل التجربة العلمانية الغربية إلى نموذج أو فلسفة تاريخية تسري على الثقافات الأخرى، يتحول بموجبها الإنسان من الإيمان إلى عدم الإيمان، ومن الوعي الديني غير العقلاني إلى وعي علماني عقلاني؛ وإذ تقرَّر هذا، فإنه يجدر بنا صرف القول إلى أن للعالم العربي خصوصية ثقافية لازمته في تاريخه، فلا يمكن أن نقرأ البنية السياسية العربية بمفردات الخطاب الحداثي السياسي، نظرا للحمولة المعرفية والسياق التاريخي المختلف، فنحن هنا يلزمنها منهج الفهم و ليس منهج التفسير، الفهم الذي يستمع لبنية الثقافة ويحلُّل عناصرها ويكاشف حدودها، و العالم العربي يتوزع الفعل السياسي فيه بين الملكيات المطلقة التي قد ترتكز على الدين كنظام الرمزي لأجل إدامة الحكم وبسط المشروعية السياسية، أو الأنظمة التي تتحكم فيها قوى بلغة أفلاطون غير عاقلة ، أي غضبية، وكلاهما لم يستطع أن يعيش تجرية علمانية على الأقل في نظامها القيمي والإجرائي : الحرية والتنسيق العقلاني وسلطة القانون وضمان الحقوق .

إن البنية السياسية في العالم العربي، تتسم بطابع الانفصال وإدامة القطيعة بين مؤسسات الدَّولة ومؤسسات المجتمع، فلاهي كانت علمانية بالمعنى الغربي، وحققت النهضة والتقدم المادي، ولا هي حفظت للثقافة العربية خصوصيتها، بل هي إرادة خفية ترفع شعار هذا وذاك، لأجل تلبية دوافعها في الاستفراد بالملك أو تلبية دوافع القوة و الهيمنة. وقهر الحريات والعجز في المقابل عن تلبية تطلعات الشعوب . وأما إشارتك إلى الجهود الجديدة في قراءة العلمانية وتأويلها، مثل تشارلز تايلور Charles Taylor (1931/ ....)أو كازانوفا أو هابرماس  Jürgen Habermas  (1931/...) فهي لا شك تتيح أدوات منهجية في فهم آخر للعلماني ، يختلف عن العلمانية الفرنسية المتكلّسة والبئيسة، لأن فيها اعترافا بالحقوق الثقافية وإقرار بقيمة الديني في جذب الجماهير وتأسيس الجماعات الدينية، وفيها أيضا، تعيين لدور جديد للدولة، دور لا ترفض بموجبه سياسات الدّولة الاتجاهات الدّينية أو الدين في الفضاء العام، وإنما ترسم الضَّوابط الأخلاقية التي تُلْزِمُ بها الجماعات السياسية في تسير النظام السياسي، ولكن، ما يؤسف لها أن هذه الاتجاهات فعلا مفيدة نظريا لأجل فهم جديد لعلاقة الدولة بالدين، لكنّها من الناحية الواقعية تواجه صعوبات في العالم العربي، بسبب الأنظمة الشمولية أو اللاَّهوت السياسي الذي  لا يرغب في أن ينفتح على هذه المستجدات، بل تنحصر مطالب فكره في رسم الحيل لأجل تلبية دوافع القوة و الهيمنة.



4- من وجهة نظركم، ما الدور الذي يمكنُ لتجربة الإيمان أن تساهم به في الفضاء الإنساني والإسلامي من أجل رتق هشاشة الوجود الإنساني المعاصر؟ وإذا كان الإيمان حاجة أونطولوجية ملحّة، فإلى أي مدى يمتلك مسوّغاتٍ إبستيمولوجية متينة؟

نعم، إن تجرية الإيمان خاصة الديني منه، ليست تخص الفضاء الإسلامي فقط، بل إنها تتوزع في بنية الثقافات الإنسانية برمتها، والفلسفة بمعناها الحي اليوم، رسمت لنفسها مهمة إمداد الإنسان المعاصر بطرائق أو رياضات روحية، لأجل علاج أسقام النفس الجديدة، أضحت الفلسفة منزع منهجي في صياغة الروحانيات التدريبية، وحتى الروحانيات من غير إله كما كتب ذلك " أندريه كون سبونفيل " André Comte-Sponville ( 1951/....)[2] في كتابه : روح الإلحاد ، نحو روحانيات بلا إله . أي أن الملحد نفسه لم يعد هو ذلك الذي يكتفي بالفهم المادي للعالم، بل هو ذلك الذي يسعى لأن يبني لنفسه  معمارا روحيا . ولا يشترط في هذه الروحانية الإيمان بإله متعال.

إن تجربة الإيمان، وهي احد مرتكزات ما أسميناه بالحكمة، تُعيّنُ للإنسان الغايات النّهائية في الوجود، و ليست الغايات التي تريد الثقافة الاستهلاكية أن تبقيها وتثبتها، الإيمان اطمئنان بمعنى الوجود، الإيمان تحرير للفعل من السلوك العَبثي إلى السلوك الحِكَمِي. إن تجرية الإيمان هي تجربة قوة وليست تجربة ضعف، وهذا ما جعل نيتشه يميز بين الأديان انطلاقا من الفاعلين المنتمين لها، ، فهناك أديان يكون المنتمون إليها في حالة نشاط وقوة وإسهام وفعل، والشيء الذي يزيد من هذه القوة، هو الإغراء  بثمرات هذا الفعل في الدنيا وفي الجنة، ومقابل هذا  الصنف من المتدينين ثمة صنف آخر يعكس أتباعه حالة الضعف والبؤس والحقد من الأقوياء ونفي الحياة، ولذا كان نيتشه دوما يوصي بأن تظل الأديان وسائل في أيدي الفلاسفة من أجل الاصطفاء و التّربية

إن تجرية الإيمان برأيي هي القوة الروحية التي تستطيع أن تتصدَّى للثقافة الاستهلاكية، ومحاولة اختزال الانسان في بعد واحد، هو البعد الاقتصادي أو المادي كما نشاهده في ثقافة العولمة، التي وإن جعلت من أهدافها توحيد العالم اقتصاديا وإنهاء الفقر و العوز والآلام، وترسيخ التضامن، إلاَّ أن صورتها الحقيقية في جائحة كورنا تبيّنت بوصفها مجموعة من المراكز المالية و الاقتصادية التي تريد أن تخلق العالم على صورتها، وقيمة التضامن العالمي التي رافعت لأجل إشاعته، انكشفت أمام الإنسانية من أنها تضامنات منادى بها أكثر مما هو مبرهن علينا واقعيا.

أما المسوغات الابستمولوجية؛ التي تجعل من الارتكاز على الدّين لأجل تجديد المعرفة أو بناء معرفة دينية،[3] فإني عملت على هذا الأمر في كتابي "روح القيم وحرية المفاهيم"، الكتاب الذي حاولت فيه أن أتجاوز الرُّسوم العقلانية الديكارتية و الكانطية و النيتشوية، فإذا كان ديكارت قد أرسى سُبل التعقُّل في المفاهيم الرياضية، وأتى بعده كانط لكي يقوم بمحو المعاني الميتافيزيقة عن التفكير العقلي، ويشكل قوالب الذهن  بما يتطابق مع الحس، تلاهما نيتشه الذي رفض أن يحكم العقل العالم، وزرع إرادة القوة في الوجود، فإنني سعيت لأن أقيم حوارية إيجابية مثمرة بين القيم الروحية و العلوم الاجتماعية، وهذا حق فلسفي مشروع، كما أسكن هؤلاء الفلاسفة العقل في الرياضيات و في الحس وفي إرادة القوة، وقد وجدت أن العلوم الاجتماعية تسير في خط ليس مأخوذا من خصوصيتها المعرفية و الموضوعية، بل إنّها تخيّلت  أن عِلميتها تأتي بمحاكاتها لخطاب التَّكميم والحساب. ولأجل هذا، اعتبرتُ القيم الروحية قيما حاكمة على العلوم الاجتماعية، وأنها مفهوما مركزيا  وقد تصير نموذجا معرفيا ، يحقق التَّكامل بين الدور العلمي الوصفي و بين إصلاح الإنسان، فعلم النفس مثلا وهو أقرب العلوم إلى الإنسان، يريد أن يختصر دوره الرحب، في الوصف و التَّكميم، بينما لم ينفتح على المعاني أو الغايات التي لابد أن يصل إليها، فالعلوم بغاياتها و ليس بإجراءاتها فقط، علم النفس كما رسمت في الكتاب المذكور، من مقاصده : بناء الإنسان السوي أو الصالح، وتعليم العدل ، وتعليم الحرية، فالصَّلاح و العدل و الحرية، إذا لم يعمل علم النفس على إنارة الدروب نحو هذه الغايات؛ فهو كــــــــ :لا علم . ويسري هذا النَّقد على الإعلام و الاتصال، الذي اختُزلت مباحثه في الإشكالات الجزئية تحليلا للمحتويات أو كشفا للعلاقات أو استخراجا للدّلالات، لكنه لا يقول كثيرا عن أمور الحياة و القيم ، فوجدت أن الإعلام المعاصر في سياق الحداثة الفائقة قد انفصل عن القيم ، و بالتالي فنحن في امتساس الحاجة إلى تجاوز مظاهر انفصال الإعلام عن القيمة، نحو إعلام يتخذ من القيمة الروحية ومن المعرفة النافعة ومن اللغة الحاملة للقيم، البوصلة التي يسير في دروبها. الخلاصة أن الوعي الروحي في الإنسان لا يقل قيمة عن الوعي العلمي المنطقي، ووجهة نظري أن الوعي الروحي مفهوما بمعناه الابستمولوجي؛ أي كأسس ومنطلقات منهجية، يستطيع أن يرفع العقدة المنهجية السائدة في العلوم الاجتماعية، ومالم نأخذ بالوعي الروحي إلى عمق الإشكالات العلمية في العلوم، فسيبقى موصوفا دوما بالميتافيزيقية المجردة. الرهان هو الاشتباك النقدي و التبادلي و التكاملي بين الوعي الروحي و العلوم الاجتماعية، لأجل أن تستنير العلوم بالقيم، وتجد القيم محلا تحل فيه .

5- بالعودة إلى الهمّ الجزائري، تعيش هذه الأخيرة مخاضًا سياسيًا عسيرًا وتجاذبات حادّة بين السلطة الحاكمة والحراك الشعبي ما يشي بانسداد أفق الحوار، وهو ما ترافق مع انبثاق صراعات هوويّة وتخوينات ومحاكمات تحاول تكميم أفواه الفنّانين والمفكرين، برأيكم ما عللُ هذا التراجع الرهيب لثقافة الحوار وإيتيقا الاختلاف؟ وما هي إمكانات المثقّف في تثوير وتفعيل مفاهيم الديمقراطية التشاركية وأخلاقيات التواصل؟

في وجهة نظري ليس تراجعا بالمعنى المطلق، بل هو إبانة عن الطبقات الجيولوجية الثقافية في المجتمع الجزائري، والصّدام و التراجع ليس في طبقته الثقافية، وإنما في الإرادات السياسية المتناحرة التي تريد أن تحول التنوع الثقافي المثمر، إلى صِدامات ثقافية أو نزاعات سياسية، مثلما هو الأمر في ما يقال تحت عنوان : صدام الحضارات، فالحضارات أو المعاني الثقافية ليست هي علَّة التصادم، وإنما القوى السياسية و القوى الاقتصادية التي تريد أن تهيمن أو تسود . إننا أمام تشكُّل سياسات خفية في السّياق الجزائري، توظف الخصوصيات الثقافية لأجل توسيع الصَّدع ونشر الكراهية الثقافية والتدابر الثقافي، إنها نزاعات سياسية أكثر من أنها صدامات ثقافية .

نحن إذن، أمام هذا المنعطف الهام، الذي يوجب على المثقفين مسؤولية حاسمة، لأن المجتمع الذي يفقد الحوار و يفقد الأخلاق لن يجد أمامه إلا العنف . و العنف من المُعَطلات الكبرى لأية تنمية حقيقية. نمتلك في الجزائر طاقات فكرية نوعية، لابد لها أن تؤدي دوها في هذه السيرروة التاريخية الحاسمة، أن تكف النخبة المثقفة عن التَّقليل من  قيمة مقدسات المجتمع، وإن كانت هناك نقاشات فالأجدر أن تكون بين النخبة، وقديما كتب أبو حامد الغزالي كتاب " إلجام العوام عن علم الكلام "، لأجل فصل النقاشات العلمية عن ثقافة الجمهور، فهي غير منتجة من ناحية الدور الاجتماعي للمعرفة، و في المقابل تفتح منابر النقاش و الحوار؛ لأجل تعليم مناهج التفكير وتعليم الاجتهاد الفكري، نحن محتاجون إلى تربية فكرية جديدة، تربية عِمادها أخلاق الحوار المنطقية والسلوكية، وعِمادها التّجارة الفكرية و الحرارة الحوارية، وعِمادها أيضا ، تعليم التفكير التجزيئي من أجل التكامل، وهذه الأفكار طوّرتها ضمن ورقة علمية عنوانها " معيقات التربية الفكرية و سبل التغلب عليها ". وتتضمَّن آليات منهجية لأجل صرف آفات العنف و الاحتكام إلى الدليل في فعل الحجاج عن نظرية ما أو فكرة ما. ومن الآليات التي اقترحتها : تجارة الأفكار والحرارة الحوارية، فالتجارة مبناها التنافس و الربح والخسارة ، و في الفيزياء المعادن الجامدة إذا لم تلامسها الحرارة فستبقى على حالتها، وكذا عالم الثقافة الإنسانية ، إذا لم تسود الحرارة الحوارية والنقاشات المعرفية، فإن مفاهيم المجتمع تتجمَّد وتخبو، ولن يسود بعدها إلا العنف ، باعتباره إكراها على الرأي من غير دليل. ولأن الدليل هو معيار الحقيقة و الاذعان، فإن علوم الحجاج و المناظرة قد بلغت مبلغا قويا في الدرس الفلسفي المعاصر، وجزء كبير من نظرية الفعل التواصلي عند هابرماس هي رسم للشُّروط و المحددات التي بموجبها ينجح الحوار و يتحرر المجتمع من مطموراته اللاَّشعورية ، والتي تغذي أي المطمورات اللاَّشعوية،  الحوار الخِلافي الذي يغيب فيه الدَّليل، ويحضر فيه التَّشهي و التحُّكم،  وتحجب الحوار الاختلافي الذي مبناه الدليل و حضور العقل، و لا عجب أما هذا، أن نجد بعد الفلاسفة المعاصرين يجعلون المقابل للعقل هو العنف !

6-كيفَ يقرأ البروفيسور بلعقروز واقع السياسة ومنظومة القيم في البلاد الإسلامية عموما والجزائر خصوصا، ولمَ لم يزل العقل العربي رهين منطق الاختزالات المثنوية الحدّية العرب/الغرب، الروحانية/ المادية، دولة دينية/ دولة علمانية؟

جدير بالملاحظة أولا؛ أن نُفَصّل معايير أولية لأجل تقويم واقع السياسة في البلدان العربية وحتى الإسلامية، فأي مجتمع تسود فيه الضمانات الاجتماعية لكل أفراده والحرية والكرامة، هو مجتمع يضع نقطة انطلاقه في المكان الصحيح، وكل مجتمع تسود فيه مظاهر العوز والاستبداد والحط من قيمة الإنسان، مجتمع خارج عن التاريخ ولا يستطيع أن يخلق حركة اجتماعية نحو التغيير. وإذ تعين هذا، فإنَّ الأمر الذي لا يحتاج إلى مقولات الفيلسوف ولا مفاهيم العالم، أن اغلب البلدان العربية رغم أنها تمتلك إمكانات طبيعية وطاقات بشرية، إلا أنها فاشلة في التسيير ولم تغادر نقطة انطلاقها بعد، لم نتشرب بعد قيم الديمقراطية السياسية والتوزيع العادل للثروة اقتصاديا. يريدون للمجتمعات العربية أن تبقى قطعانا تقاد ولا تثور أو تتحرك لأجل الحق في الكرامة و الحق في التمتع بثرواتها.هذا وإن أزمة القيم في الثقافة العربية و الجزائرية حاصلة أيضا، فنحن لا نُقدر الأخلاق و لا نُقدر الجمال و لا نقدر الفعل النوعي، فكيف لنا أن نتغير أو ننهض، الأخلاق هي التي تربط بين الناس ربطا داخليا روحيا، والجمال هو الإطار الذي يؤثر في النفوس و العمل هو الذي ينقل الأشياء من وجودا الأصلي الخام، إلى وجود جديد يصبح متداولا ومنتفعا به . و شخصيا لست من الذين يربطون بين زوال الأنظمة السياسية و بين تحقق العدالة الاجتماعية، فهي مراهنة من منظور أحادي، تنسى أن المجتمع هو أيضا في امتساس الحاجة إلى التغيير و الثورة ضد قيمه المريضة . وأينما تحصَّن المجتمع بذاته واستطاع أن يكون قوة اجتماعية أخلاقية ، فإن السياسي الفاسد لن يستطيع اختراقه أو الكيد له . لذا، دوما أركز على الكفاح الثقافي و الكفاح الفكري و الأخلاقي، لأنه الضّمانة التي تبقي للمجتمع مصادر حياته ومنابع قوته . و هذا لا يعني الإعراض عن المدى السياسي، فهما متكاملان، متى كان السياسي من روح المجتمع ومتى كان المجتمع محصنا بقيم الديمقراطية والإنسانية .

7- يلاحظ اليوم عودة سؤال المرأة ووضعها الحرج من جهة، وحضورها اللافت من ناحية أخرى في تحقيق وجودها في مدارات الثقافة والدين والسياسة، وهي مدارات كانت إلى وقتٍ قريبٍ حكرًا على الجنس الذكوري. كيفَ يقيّم البروفيسور عبد الرزاق بلعقروز واقع المرأة العربية/المسلمة اليوم؟ وما مرتكزات إعادة أخلقة المجتمع وترقيتِه ثقافيا - في نظركم- من أجلِ تحقيق التكامل الوجودي بين المرأة والرجل في البلاد العربية الإسلامية؟

عبَّرت في احد نصوصي عن صفة من صفات الاجتماع الإنساني، وهي صفة المُخالقة، أي أن تكون الأخلاق هي الوسائل البنائية و العلاجية للمجتمع، وأن الأخلاق ليست إلزامات إكراهية يتلقاها الفرد من مصادر متعالية، وإنما هي نمط وجودي جمالي أيضا، فالتجمُّل بالأخلاق هو أيضا قيمة جمالية وليست إكراهية. أعتقد أننا بناء على حالة التأزم في الأسرة، وحالة الانفصالات الاجتماعية، مطالبون بمراجعة منظوماتنا التربوية، من حيث الرؤية والمنهج أيضا، فالتربية هي المحضن الذي يمتص فيه الطفل رؤيته إلى العالم، إنها أشبه بالنُّطفة الإنسانية التي تنعكس فيما بعد على سائر الخصائص العقلية و النفسية. إن مشكلتنا ليست في التربية، فكلنا نرغب في تربية ذواتنا وأبنائنا تربية قويمة، المشكلة في المنهج الذي نسلكه في تربيتنا، نحن نربي بالعسف و القهر ونريد أبنا ناجحا ومتوازنا، هذا لا يصح وجوده  رأسا. إن التربية الجديرة بالـتأثير فعلا هي التربية بالقدوة و التشجيع و الاستماع و المشاركة و الحب، وكذا الأمر في العلاقة بين الرجل و المرأة، أصبح الزواج  اليوم مؤسسات تجارية أكثر منه مشروعا إنسانيا لأجل استكمال مسار تخليق الإنسان وإعانته على تنمية إمكاناته العقلية و النفسية و العلمية و الإبداعية . الزواج مشروع قيمي بين الرجل و المرأة، يثمر العلاقة التكاملية وينمو بالمحبة والحوار و التواصل، ومالم نراجع منظومتنا التربوية في التنشئة والعلاقة مع المرأة فإن ظلال الأسرة الغربية ليست بعيدة عنا، إنها قريبة بالمعنى و الحقيقة و ليس بالمكان و المسافة، و هذا بفعل ثورة الاعلام و الاتصال .

8- بوصفكم أستاذا جامعيا وأحد أبرز البحّاثة العرب والجزائريين في حقل الفلسفة، يعيشُ عالم اليوم انتكاساتٍ روحية وصحّية وبيئة تحتاجُ وعيًا فلسفيا رصينا لمجابهة أزمة الإنسان، ورغم دور الفلسفة في إعداد مشاريع إجابة تليقُ بسككننا الوجودي المعاصر ومآزقه، إلا أن واقع البحث الفلسفي العربي ما زال منغلقًا داخل دوائره الأكاديمية الضيّقة. وعليه، كيف يمكنُ في رأيكم تفعيل الفلسفة في تأثيث وجودنا اليومي؟

نحن كمشتغلين في حقل الفلسفة، أمامنا مسؤولية تاريخية حاسمةـ، تتمثل في تحويل القول الفلسفي من الحيز المستور إلى الحيز المنظور، وإنه ليبدو أن فوضى الواقع وهيمنة الوعي السطحي و الساذج  راجع في أحد علله، إلى افتقاد الفضاءات العمومية إلى الوعي الفلسفي، ولقد كان الفلاسفة في الثقافة الإسلامية قد انتهجوا منهجا طريفا هو : سبيل التيسير والتسهيل ، خاصة في مستوى العبارة، وما أحوجنا إلى بث الحياة في هذه الوسيلة المنهجية، بأن نقوم متوسّطين بالتسهيل و التيسير في العبارة قصد  تقريب الفلسفة إلى الوعي العام. إن هيمنة الرؤية الأحادية والثقافة اللاَّعلمية والعنف وإرادة  المحو، يكون علاجها بالتَّفلسف، التَّفلسف القريب من ثقافة المجتمع، والذي نخاطبه  متوسلين في ذلك بالتمثيل القريب مما يراه ويشاهده، و ليس بما هو غائب منه وينغرس  في ثقافة أخرى لم يعهد رموزها وأمثلتها وخصوصيتها اللغوية و الثقافية، وإذ تعين هذا الأمر الخاص بأهمية تقريب التفلسف، فإن الآليات الكفيلة بذبك هي :

1.إحياء طريقة التسهيل و التيسير في العبارة للقول الفلسفي؛ وليس العرض المجرد الذي يخاطب العقول المجردة التي تشبه أصحاب الفِطر الفائقة كما سماهم الفارابي.

2.تعليم التفلسف انطلاقا من الواقع المشهود، بالتمثيل من روح الثقافة ورموزها وخصوصيتها الانثربولوجية؛ وقديما أسهم ابن حزم الأندلسي في هذا الدور من خلال كتابه " التقريب لحد المنطق و المدخل إليه بالألفاظ العامية و الأمثلة الفقهية" ، فالمنطق كان آلة منهجية أقرب إلى نحو اليونان وأمثلة اليونان العاكسة لثقافتهم رؤية ورموزا، وعندما أدخل ابن حزم أسلوب التقريب انطلاقا من الأمثلة الفقهية و الألفاظ العامية، أضحى من العلوم المستعلمة و لبس العلوم المهمة .

3.تعليم التفلسف وتنمية غريزة التفلسف ضمن المراحل الأولى من التربية، فمن كان مرباه بالعسف و القهر ضيّق على النّفس في انبساطها  ودعاه ذلك إلى التظاهر بما ليس في ضميره كما أشار ابن خلدون، خوفا من انبساط الأيدي عليه، ولأجل هذا فإن مشروع الفيلسوف الصغير الذي بجري الاهتمام به جدير بنا توطينه في برامجنا التعليمية .

4.تحرير التفلسف من خصوصيته أيضا، بأن يكون في تكامل مع العلوم المتعددة، بمعنى نسقية في التفلسف التكاملي بعيدة  عن لغة الأنساق الفلسفية القاهرة، فالفارابي ناقش مسائل غير فلسفية من منظور فلسفي: مثل الموسيقي و سياسية المدينة و فلسفة الفعل و قضايا النَّحو و المنطق و الأخلاق، و ابن رشد أقام حوارية بين النظام الفقهي في المعرفة و النظام الفلسفي و أراء المتقدّمين من فلاسفة اليونان، وهكذا، ونحن اليوم لا بد من تجسير الصلة بين التفلسف وإشكالات الإعلام والعلوم الاجتماعية وأزمات العلوم الطبيعية. واعتقد أن هذا بات يعرف اليوم بالفلسفة الاجتماعية والفكر المركب، وهي  أي الفلسفة الاجتماعية ذات طابع نقدي لأمراض الإنسان و المجتمع و الحضارة، تهدف إلى مواجهة الظلم والاستبداد و الاحتقار وغيرها من أمراض الحضارة .

 وهنا، بعد أن تبيّنت هذه الملامح؛ نقول بأن الدَّرس الفلسفي لا ينبغي أن تتولى إصلاحه مؤسسات التعليم فقط، بل من الأقوام الانصات إلى هواجس المجتمع وافتتاح المقاهي الفلسفية؛ وإلا صدقت تلك القولة الشهيرة : بأن المتفلسف يهوى الظلام و الغموض، وما إن يطلع النهار عليه، حتى يفر إلى الغابة هاربا من تحديات الواقع .

9- أخيرا، نودّ سؤالكم بروفيسور بلعقروز حول مشاريعكم الفلسفية البحثية الراهنة والمستقبلية، وبمناسبة اليوم الوطني للفلسفة- (الحوار وصدور المجلة سيوافق اليوم الوطني للفلسفة)- ما هي توصياتكم لتعزيز حضور الفكر الفلسفي السؤول والناقد في الجزائر وعموم البلاد العربية؟

بمناسبة هذا اليوم الوطني للفلسفة، أنثر عبارات التهنئة والتمجيد لكل مشتغل بحقل الفلسفة، ولكل مهتم بها من خارج فضاء الفلسفة ، وأما توصياتي كي بتعزز الدور الحضوري للفلسفة فهي تواليا :

أولا . ضرورة أن يكون لدينا في الجزائر تراجمة ماهرون ، ليس لأجل تعريف المتلقي بالدرس الفلسفي الفرنسي، وإنما فتح أواصر فلسفية من الفضاءات الفلسفية الأخرى، مثل الفضاء الألماني و الفضاء الانجليزي والسؤال الفلسفي الأمركي ، الذي اعتقد أننا في امتساس الحاجة إليه أكثر من الفضاءات الأوروية الأخرى. فحاجتنا هي أقرب إلى تحديات واقعية، تُمَكِّنُ من الحياة بالتفلسف فكرا وعملا، وتمُكن من اكتشاف وسائل عملية تعيننا على رفع التحديات الحضارية التي تقابلنا .

ثانيا.استمرار التراكم الفلسفي، من حيث النقاش و الحوار و الإبداع و الكتابة، لأن التراكم يثمر النَّوعية مع مرور الزمن، وكيما تلين الثقافة وتتحرك متحررة من البنيات الثقافية الثابتة والمعطلة للانطلاقة الفعلية، فإنه يلزمنا ما سماه "إدغار موران": تجارة الأفكار (التنافس والتباري والإبداع ) و الحرارة الحوارية، فالمادة الجامدة لا تلين ولا نستطيع تشكيلها إلا بالحرارة، والأمر عينه، على عالم الأفكار، فالحرارة الحوارية تُلِينُ المذاهب الفلسفية والبنيات وقد تمخر حتى تصل إلى النَّماذج والنّوى .

ثالثا.اشتباك الدَّرس الفلسفي مع حركة الواقع، وليس الحوار الفلسفي مع النصوص فقط، فالنص هو نسيج كما جاء في المعجم اللاتيني، والنسيج مواده متعددة، كذا القول الفلسفي، ينبغي نسجه عن طريق الاشتباك مع الحركة، فهما ونقدا وتوجيها؛ وأعتقد أن ما بات يعرف راهنا، بالفلسفة الاجتماعية هو الأقرب إلى هذا المعنى، فهي فلسفة نقدية لأنظمة الثقافة ومنهج السلوك الاجتماعي و الأمراض النفسية والأخلاقية السائدة.

رابعا. تفعيل الدَّرس الفلسفي الأخلاقي، عن طريق أن يكون درسا يُعلم الإنسان الكيفية التي تزدهر بها حياته كما تقول مارثا نوسباوم   Martha Craven Nussbaum1947 فيلسوفة المشاعر الأخلاقية الأمركية، وتصرف عنه الأحزان النفسية التي تكدّر معنى حياته، وقد تتقدم الفلسفة الأخلاقية خطوة جديدة، بأن ترسم للنَّاس فنونا للرياضات الروحية وعلاجات لأسقام النّفس الجديدة، واعتناء بالإنسان من جديد: استماعا له وتفهما لانفعالته بعيدا عن صرامة المنطق ولغة الإلزام العقلي الجاف،[4] وكأن الفلسفة هنا كما قال هيدجر ليست علما ولا نداءا أخلاقيا وإنما هي رؤية إلى العالم بوصفه هيئة؛  تروم دوما تبديل النظرة إلى العالم وتغيير السلوك والتواصل المستمر الذي يحرر الذوات من توكيد نفسها تحت أقنعة وألوان عديدة ، وهنا الفيلسوف كما قال نيتشه انسان لا ينقطع عن العيش وعن الرؤية وعن الشك وعن الأمل وعن الحلم في الأشياء العظيمة.

في الاخير شكرا لك جزيلا استاذ  بوخالفة مصطفى على هذه الحوارية وأتمنى لمجلتكم الفلسفية : النقطة الزرقاء؛ الإسهام في تنمية الوعي بالفكر الفلسفي ودوره الحاسم في تجديد العقل و تجديد الروح وخلق ثقافة الأمل والطموح والحق في الحلم بالأشياء العظيمة .



 أجرى الحوار، مصطفى بوخالفة، مجلة النقطة الزرقاء.[1]

[2] VOIR . Andeé Comte-Sponville, l’Esprit de l’athéisme , Introduction a une spiritualité sans dieu ,Albin Michel ,Paris,2006 .

[3] يقول هيجل " إن مطلوبنا من الفلسفة ليس أن تجعل الدّين موضوع بحث لها، بل المطلوب منها هو بالأحرى أن تجعله أساسا مفروضا في كل شيء. فالدّين ينبغي أن يكون، بمقتضى جوهره، مالا يمكن لأيّ أمر جديد في حياة الإنسان أن يحصل من دونه". جدلية الدين و التنوير، " من دروس فلسفة الدين لهيجل "، ترجمة أبو يعرب المرزوقي، أبو ظبي، كلمة، 2014، ص  29.

 

 أو المقابل الفرنسي ،Ethics of care  يعرف هذا الاتجاه في الفلسفة الأخلاقية بأخلاق العناية، [4]

Éthique de la sollicitude


تعليقات

  1. بوركت ودام تميزك الطيب مطارحات فلسفية تطرقت اليها وخوص في اعماقها تبقى في البحث والاستكشاف

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تحسين التَّقبيح وتقبيح الحسن : حول صناعة المحتويات السَّافلة

في سؤال التغيير عبد الرزاق بلعقروز

التَّجربة و الآفاق الإدراكية الواسعة ..... عبد الرزاق بلعقروز