نحن لم نفقد أستاذا أو فاعلا أو كاتبا .. فقدنا وتدا من أوتاد الإنسانية الصادقة...البشير ربوح ..
![]() |
عبد الرزاق بلعقروز البشير ربوح |
عندما عرفت المرحوم البشير ربوح، كنت
طالبا في مرحلة الماجستير في الجزائر العاصمة (2004)، كان نقاشنا في البدء فلسفيا
حول منهج التدريس في الثانوية مادة الفلسفة، تلمَّست منه في تلك الفترة عقلا ناضجا
وأستاذا في الفلسفة يعي الدور التربوي للفلسفة ولا يراها مجرد وسيلة للاسترزاق أو
مهنة يتقاضى عليها أجرا، و الدليل على ذلك أن ربوح في تلك الفترة كان يملك محلاَّ
لتجارة الذهب، ولم يكن هذا عائقا امام عشقه للفلسفة ونهمه بالنُّصوص كما كان يسميها
دوما.
لقد انفتحت بصيرتي على شخص قارئ
للفلسفة، منفتحا على الكتاب الفلسفي وفي الوقت الذي تعرفنا فيه على بعض، كان بناء
الدرس الفلسفي من منظور ميشيل طوزي هو موضوع نقاشنا. بدأت العلاقات تنمو بيننا،
لعدة اعتبارات منها قرب المسافة الجغرافية بيننا (رأس الواد/صالح باي)، وقبلها قرب
الأرواح و الأنس فيما بينها. كان البشير ربوح لما دخل إلى مرحلة الماجستير قارئا
ومتابعا نهما، وقرر أن يشتغل حول المفكر عبد الوهاب المسيري، الذي استطاع أن يخترق
نصوصه ويذهب بعيدا إلى الأصول الفلسفية الكبرى أو النصوص الـتأسيسية كما كان
يسميها ربوح، فاستطاع أن يقرأ ماكس فيبر، وهيدجر، ودوسوسير ودريدا وليفيناس وغيرها
من الشخصيات الفكرية التي وجدها ربوح عند عبد الوهاب المسيري مستثمرا أفكارها أو
ناقدا لرؤاها الفلسفية. ليستقر موضوعه فيما بعد على فلسفة هيدجر وكان يقول لي دوما
أنه يحب أن يتخصص في فلسفة اللغة .
الفلسفة هي أسلوب في التربية : لم يكن صديقي المرحوم ربوح يتفنن في الفلسفة نظريا
فقط، وإنما كان مفكرا فعلا، لأن ميزة المفكر أنه يربط بين الأفكار و الواقع
وتحدياته راغبا؛ في إصلاحه والارتفاع به. لقد قرأ عبد الوهاب المسيري وكان معجبا
بالمسيري لفلسفته النضالية ومما كان يقوله لي عن المسيري : أنه كان يأخذ (أي
المسيري) أولاد أصدقائه ويجري معهم جولة محادثا لهم ومتواصلا معه . كان البشير
يبتهج بالأفعال الراقية للمفكرين و للفلاسفة، و يتقزز من السلوكات الدنئية وإنسان
الثرثرة. الذي لا يعرف من الفلسفة إلا نصوصها. إن قراءة البشير ربوح لعبد الوهاب
المسيري أو لإدوارد سعيد أو لحنا ارندت أو لهيدجر ليست من أجل البراعة النظرية،
إنما كانت تأسره مواقفها النضالية وأفعالها في الواقع .. وطالما كرر عبارة "
التاريخ لا يسجل دموع البكائين وإنما يكتب إنجازات الفاعلين " ... ولذا استمر
البشير في كتابة تاريخ الحقيقة، بالقول و الفعل و الفعل الصدوق أيضا.
التاريخ فعل في المكان ... كان المرحوم البشير ربوح يؤمن بأن الإنسان كائن
تاريخي، فهو ليس إلا ما يصنعه في التاريخ .. كان لا يرغب في إنسان الكلمة وإنسان
الثرثرة وإنسان الميتافيزيقا.. كان يؤمن بأن الفعل هو الذي يكسر تلك الحواجز التي
توهمنا بأننا لسنا قادرين أو أن الواقع أكبر حجما منا. وعندما اتصلت به منذ
سنوات لأجل أن يسهم معنا في ماستر فلسفة
القيم بجامعة سطيف 2 حول مقياس فلسفة الفعل ... استجاب وأنجز لنا مقياس فلسفة
الفعل بمحاوره و مفرداته ومراجعه ... وقرأ الطلبة بجامعة سطيف 2 هذا المقياس سنوات
... تخللتها استجابته لدعوتنا بتقديم محاضرة لطلبة الماستر حول فلسفة الفعل وتقديم كتابه الجماعي الذي أشرف عليه حول فلسفة
الفعل لطلبة الدكتوراه بجامعة سطيف 2 " فلسفة القيم و ابستمولوجيا العلوم
الإنسانية ... ولأن الرجل صادق في فعله وعمله ، أنّه لما جاءت مرحلة توحيد مشاريع
الماستر في الفلسفة .. اختارت اللجة الوطنية في الفلسفة مقياس فلسفة الفعل من جامعة سطيف 2 تخصص فلسفة القيم ... لكي يدرس
في تخصص الفلسفة التطبيقية ولدى كل طلبة الفلسفة في الجزائر ..وهو إلى كتابة هذه
السطور لايزال مقياس قارا في التخصص المذكور.
الفلسفة هي وصال إنساني .. كان المرحوم البشير ربوح نموذجا في الوعي بقيمة
الصداقة كقيمة خلقية رفيعة ...كان صديقا وتأنس روحك به في لقاءك الأول به ..
يتواصل سائلا عن الأحوال و يفرح إذا ما تواصلت معه مازحا أو سائلا .. ولعل ميزة
شخصية ربوح أنه استطاع أن يخلق هذه الصداقات
المباشرة وغير المباشرة يما بيننا.. كان المرحوم متحررا من التصنيفات
الإيديولوجية الجاهزة وينفتح على الجميع
ويؤمن إيمانا صادقا بأخلاق كانط التي تقضي
بمعاملة الإنسان كغاية و ليس كوسيلة ...
الوجود إبداع في الكتابة و الفعل ...يظهر البعد الإبداعي عند البشير ربوح في إيمانه بأن
الحياة من غير فعل هي حياة ميتة في هذا العالم، ولذا انبرى للكتابة في المجلات و
الجرائد العالمية...من غير كلل و لا توقف، وكان حريصا على تجويد نصوصه وتطعيمها
بالمفردات التي تحفز الإرادة و تخلق وتبدع .. وعندما هم بدفع كتابه الذي أشرف عليه
حول العلمانية ... اتصل بي وأسمعي مقدمة الكتاب في الهاتف طالبا رأي في المقدمة ..
فكنت دوما اقول له وهل أنت تحتاج إلى من يسمع له يا كمال .. لكنني كنت أحب أن أسمع
له لانني أشعر بالأنس في كلامه والتوهج في روحه العالية ...
ستبقى في قلوبنا دوما ... ندعو لك
بالمغفرة و الرحمة... وعندما كُنْتَ في لباسك الأبيض وأنا أنظر إليك ودموعي لم
تتوقف ... هذا ليس كمال ... كمال لم يمت ... ..لكن أمر الله ماض وقضاؤه رحيم
بالإنسان ..أنت حي بيننا.. لم تمت..أخي كمال ....
لن تكفي المتون التي نكتبها عنك صديقي
الغالي.. نحن لم نفقد أستاذا أو فاعلا أو كاتبا .. فقدنا وتدا من أوتاد الإنسانية
الصادقة .. رحمك الله أخي الحبيب .. ومنذ أن اختارك الله للقائه أصبح ذوق الحياة في
فمي مرا ... وليس لنا إلا أن ندعو لك بالرحمة و المغفرة والسلامة في عالم الخلود
مع الذين اصطفاهم الله من أهل العلم و الخير..
تعليقات
إرسال تعليق