المعرفة والارتياب لــ: محمد مستقيم


يواصل الكاتب و الباحث الجزائري الدكتور عبد الرزاق بلعقروز الحفر المعرفي العميق في تربة الفكر الفلسفي الغربي من خلال اشتغاله على فلسفة فردريك نيتشه، وتتسم أعماله بالجهد الأكاديمي الدقيق والمتأني من خلال إعادة قراءة هذه الفلسفة على ضوء مستجدات الفكر الفلسفي العالمي المعاصر. فبعد كتابه/ الأطروحة " نيتشه ومهمة الفلسفة: قلب تراتب القيم والتأويل الجمالي للحياة" والذي قدمنا له قراءة سابقة على صفحات  جريدة"أخبار اليوم" يعود بلعقروز بكتاب جديد وهو في الأصل رسالة جامعية لنيل شهادة الدكتوراة في الفلسفة تحت عنوان : "المعرفة والارتياب: المساءلة الارتيابية لقيمة المعرفة عند نيتشه وامتداداتها في الفكر الفلسفي المعاصر" ، منشورات منتدى المعارف ، بيروت 2013.وهو بحث يستقصي فيه المؤلف سؤال معرفة الحقيقة عند نيتشه ليلقي الضوء على هذه القضية كما تبلورت في الفكر الفلسفي المعاصر عبر امتداداتها الغربية عند أسماء معروفة مثل يورغن هابرماس وميشال فوكو وجيل دولوز. وكذلك عبر امتداداتها في الثقافة العربية المعاصرة. وعموما فإن هذا البحث هو جواب على سؤال كبير حول كيفية تلقي فكر نيتشه في الفكر المعاصر.
يؤكد المؤلف بأن المساءلة الارتيابية لقيمة المعرفة وامتداداتها في الفكر الفلسفي المعاصر تأتي أساسا في سياق المراجعات النقدية التي قطعتها المساءلات الابستمولوجية المعاصرة في نقدها ليقينيات راسخة في الذاكرة العلمية والفلسفية مثل القول بجوهرانية العقل وبموضوعية المعرفة، وكذلك الفصل بين الواقع والقيمة والنمو التاريخي لفكرة الحقيقة والمسار الغائي للحركة التاريخية التي يعد هيجل العلامة الأخطر على بلورة هذه الصياغة.
لكن في مقابل النقد الابستمولوجي للمعرفة كما عرف عند غاستون باشلار وجورج كانغلهام، فإن نيتشه قد تصدى لنقد المعرفة من الزاوية القيمية وذلك بإحالتها على شروطها الوجودية ورهاناتها المصلحية المنتجة لها. فمعاول النقد الارتيابي لاتستثني الحقيقة العلمية ولا الحقيقة الفلسفية والميتافيزيقية، لأن العلم في نظر نيتشه يخضع لنفس المنطلقات وبالتالي يواصل العمل الذي قامت به الميتافيزيقا.
يرى المؤلف بأن فلسفة نيتشه الارتيابية قد شهدت انبعاثا جديدا بعد الحرب العالمية الثانية وذلك في اتجاهين أو فرعين:
1- الفرع الأول: يتعلق بالفضاء المعرفي الغربي حيث امتد من التحليل النفسي مع فرويد إلى نقد العقل العميق مع مدرسة فرانكفورت خاصة مع أدورنو، كما ظهرت بصورة أكثر حيوية مع فرانسوا ليوتار وفلسفته المعبرة عن أزمة الإنسان الحديث إلى أطروحات جون بودريارد المنذر بموت الواقعي وأفول الحقيقة وصولا إلى جيل دولوز العاشق لسكن الأقاليم وإبداع المفاهيم بالإضافة إلى التلقي العربي المبكر لفلسفة الارتياب مع فرح أنطون وسلامة موسى ومالك بن نبي وعبد الرحمن بدوي.
2- الفرع الثاني : يتضمن نموذجين من امتدادات النقد النيتشوي لقيمة المعرفة وإرادة الحقيقة :ما النموذج الثاني فيمثله ميشال فوكو الذي واصل السير على نفس تطريق إلى ابعد الحدود مخترقا حدود الفرك الفلسفي التقليدي عبر كتابة التوارخ المنسية
 يمثل هابرماس نموذج من الفلسفة الألمانية على حدود هذه المساءلة الارتيابية من خلال: مدخل إلى قلق الصلة بينه وبين نيتشه، ثم كيف فقدت الحداثة امتيازاتها بدخول نيتشه إلى قول الحداثة، بعدها قيمة المعرفة بالإضافة إلى الحياة، من خلال نموذج معرفة المؤرخ التي تكون لها الكلمة العليا فيها للذات العارفة وليس لأبة سُلطة تاريخية أخرى، وهذا جميعه يدخل في نسق الانتقال من نظرية المعرفة التقليدية إلى النظرية المنظورية للانفعالات، التي لم يستسغها هابرماس لأنها لم تواصل فتح مغاليق الوعي التي ابتدأها هيجل، واكتفت بتنزيل معجم علوم الأحياء على المعرفة وملكاتها.
ويمثل ميشيل فوكو نموذج الفلسفة الفرنسية كعينة على مضاعفة الارتياب من قيمة معرفة الحقيقة والتبرم منها من خلال: تجنب إسقاط المعنى على المعرفة التاريخية والصيرورة الغائية، وإحلال قوى الصراع، والإنفصالات مكانها، ثم تطوير المساءلة الجينالوجية في التأويل والتقييم من أجل كتابة التواريخ الصامتة والمنسية، وبالتالي مجاوزة حدود الفكر التقليدي، بعدها إماتة النزعة الإنسانية، وكيف أن صورة الإنسان الخالدة ليست سوى صورة تاريخية، نشأت تحت تأثير مفاعيل لاعقلانية كالدول والديانات وقد أوشكت على موتها، ثم تفكيك وهم الحِياد المعرفي الذي تتباهى به المعارف والمناهج العلمية وإدراجها في أنساق المؤسسات التي توزعها وتعبر عن نفسها من خلالها.
أما بالنسبة للفكر العربي المعاصر فقد اختار المؤلف نموذجين ذلك وهما : ومحمد أركون وإدوارد سعيد. مع رصد مواصفات استقبال نيتشه في الفكر العربي مبكرا، ثم كيف أضحى الاهتمام به فاقعا وبصورة لافتة، وذلك من خلال جدل القراءة بين عبد الرحمن بدوي وفؤاد زكريا، أو بين الدعوة إلى الثورة الروحية وبين ارتكاس فلسفة نيتشه وابتعادها عن الواقع، لانغراسها في النظم الفكرية الرأسمالية. ثم التطرق إلى راهن الحضور النيتشوي في الفكر العربي المعاصر؛ مع اختيار نماذج أخرى : طه عبد الرحمن أو نيتشه وتسيب التأويل الاستعاري، محمد عابد الجابري أو نيتشه منخرطا في علموية عصره، علي حرب أو نيتشه من الحقيقة إلى القراءة .
وبعد هذا الرصد للصلات بين نيتشه والفكر العربي المعاصر بعامة؛ تم الانتقال إلى التحليل والمقارنة بين الأخذ بهذه الارتيابية إلى أساسات التراث المعرفي الاسلامي مع محمد أركون؛ وبين توجيه سهام هذه الارتيابية إلى صدر الرامي نفسه بما سماه المؤلف: الإرتيابية المعكوسة عند إدوارد سعيد تجاه المعرفة الغربية حول الشرق أو الخطاب الاستشراقي، فمع محمد أركون ظهرت عناصر الأخذ بها في تطبيقه للمنهجية النتشوية الجينالوجية من أجل ملاحقة الأصول وإثبات تاريخيتها وتعددها، ثم قراءة الإنتاجية المعرفية التراثية الإسلامية كما لو أنها أنساق نظرية تساند تناحر إرادات القوى، أو البحث عن الرهانات السياسية خلف العقائد الإيمانية.
أما إدوارد سعيد فقد استفاد من هذه الارتيابية حيال إرادة معرفة الحقيقة التي طورها نيتشه، ونوع من استخداماتها ميشال فوكو، استفاد منها في جبهات المواجهة الآتية :
 تأطير المعرفة الاستشراقية ضمن فلسفة الذاتية؛ بماهي فلسفة ولد في محاضنها خطاب الاستشراق وبنى متخيلة عن الآخر، بالارتكاز على ثقافة التمركز والطهرانية والعقلانية-الذاتية. حيث بدت المعرفة الاستشراقية أنها نتاج لهذه الثقافة التمركزية أكثر من أي شيء آخر. ثم كيف أن المعرفة الاستشراقية وليدة إرادة قوة ونشاطات سياسية أكثر منها رغبة في الموضوعية أو ادعاءً للعلمية، أخيرا كتابة جينالوجيا المعرفة الإمبريالية بالبحث عن أنسابها وأصولها، ثم الحط من قيمة هذه الأصول أو الذات الأوروبية في تمثلها لآخرها الصامت، وفوق هذه الاعتبارت جميعا رام إدوارد سعيد تأسيس الحقيقة لا على الإجراء البرهاني والصدق النظري؛ وإنما على التحديد الحيوي ما دامت الحقيقة في وحدة مع الحياة وتريد الارتفاع والاستقلال والإبداع.
يختم المؤلف كتابه القيم هذا بالتأكيد على أن هذا التصور الارتيابي قد أنزل الحقيقة من سمائها الأنطولوجية إلى الأراضي الوجودية في بعدها النفسي، فالحقيقة عنده لاتسكن تلك العوالم التي خلقها الفلاسفة بل هي الإقرار بالتغير والصيرورة واللاعقلانية والتناقض والألم والشقاء . أما ماكونته الأنساق الفلسفية ليس سوى أدوات وذرائع لاتبتغي الحقيقة لذاتها، وإنما الحقيقة الدوغمائية لأنها تلبي دوافع الحاجة إلى الأمن والوضوح والاطمئنان.
أما تلقي هذه الفلسفة الارتيابية فقد أبان عن غنى منطلقات نيتشه رغم اختلاف سياقات التلقي سواء عند الغربيين أو عند العرب ، وتبين أن الأمر لم يكن مسألة نقل بل إجراء مختلف حيث تم إبداع تلك المفاهيم بقدرما تم فصلها عن موطنها الأصلي وإعادة إنتاجها بما لايتعارض مع أصول المجال التداولي المنقولة إليه هذه المفاهيم، من هنا يكون الوفاء لمساءلة نيتشه الارتيابية بالاختلاف والمغايرة لها لا بالتطابق أو الاتفاق معها.







تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تحسين التَّقبيح وتقبيح الحسن : حول صناعة المحتويات السَّافلة

في سؤال التغيير عبد الرزاق بلعقروز

التَّجربة و الآفاق الإدراكية الواسعة ..... عبد الرزاق بلعقروز