لغة الأشكال والجمال في فن فاسيلي كاندنسكي بقلم/ الأستاذ الدكتور كمال بومنير


ترتكز الرؤية الجمالية عند ممثل المدرسة التجريدية المعاصرة الفنان الروسي فاسيلي كاندنسكي Wassily Kandinsky على فكرة مركزية مفادها القول بأنّ بنية العمل الفني في جوهرها بنية تجريدية خالصة. ومن ثمة ليس الفن في حاجة إلى محاكاة مظاهر الأشياء المادية، وذلك لأن القيم الجمالية الحقيقية لا يمكن أن توجد في الأشكال والأشياء الواقعية والمرئية بل يجب البحث عنها في الصور والأشكال اللامرئية، كالخطوط والأشكال والألوان التي لا تهدف إلى رسم شيء بعينه -كما كان عليه الحال في الرسم التمثّلي- ولا تمثل أي شيء سوى ذاتها، من حيث هي بنية أو شكل تجريدي خالص. لذلك انصب اهتمام فاسيلي كاندنسكي على إبراز والتعبير عنها فنيا من خلال ما يسميه ﺒ "الضرورة الداخلية" La nécessité intérieure لأنّ كل شيء خارجي –كما يقول كاندنسكي- يتضمن بالضرورة عنصرا داخليا (ظاهر إلى حد ما)، ولكل شكل مضمون باطني. ومن ثمَّ، فإنّ الشكل عنده هو بمثابة تخارج للمضمون الباطني. هذا هو التعريف الداخلي للشكل. ويجب أن نستحضر هنا مثال البيانو؛ فحينما نستبدل "اللون" ﺒ "الشكل"، يصبح الفنّان بمثابة اليد، وهذا من خلال الاستعمال المناسب لطريقة وضع اللون على اللوحة (=الشكل)، التي تهّزُ النفس الإنسانية. وإذ ذاك، لا عجب أنّ يقوم انسجام الأشكال وفق مبدأ الدخول في علاقة فعالة مع النفس الإنسانية. إنّ هذا المبدأ قد حُدّد بكونه مبدأ الضرورة الباطنية . وهذا من أجل الوصول إلى الجميل وتذوقه والكشف عن حقيقته الروحية المنزهة عن أي غرض نفعي أو غاية مادية وقصد تحقيق جمال خالص من خلال تقصية اللون والشكل، قصد التعبير عن هذه الضرورة الداخلية معتمدا لا التمثيل الصوري (أو التشخيصي) بل الأشكال المجردة التي وجد فيها قوة إيحائية تعبّر عن الجوهر والمضمون الكامنين خلف الظواهر. غير أنّ فاسيلي كاندنسكي لم يكن ليصل إلى ذلك منذ عام 1910، تاريخ أول عمل تجريدي له، لولا الظروف التاريخية التي مهدت لظهور فن لم يعد بالإمكان اعتباره مطابقا للتمثيل الصوري( أو التشخيصي) . غير أنه، وبعد عام 1910 صنّف فاسيلي كاندنسكي أعماله الفنية "التجريدية" إلى ثلاث مجموعات وهي:
1-الانطباعات Impressions التي يمكن أن ندرك من خلالها بعض التلميحات إلى الطبيعة الخارجية.
2- الارتجالياتImprovisationss المتولدة من الحياة الداخلية للفنّان، وإسقاطه العفوي لحياته أو تجربته المعاشة التي اكتسبها عبر انطباعاته. 
3- التركيبات Compositionss التي تشمل جملة الخبرات التي تراكمت لدى الفنان والتي تؤهله حقا لإنتاج أعمال فنية راقية، لما تتضمنه من خبرات فنية متراكمة وناضجة من الناحية الجمالية. . هذا، وقد أشار كاندنسكي إلى ذلك في كتابه حول الروحانية في الفن حينما اعتبر فن الرسم تصادما رنّانا لمختلف العوالم المتوجهة إلى خلق عالم جديد يسمى العمل الفني. والحقُ أنّ العمل الفني عنده يتولد من الناحية التقنية مثلما وُلد الكون، أي عبر الكوارث التي تتمكن من خلال الصياح الفوضوي للعناصر من تكوين سيمفونية موسيقية كونية. وعلى هذا النحو يتجلى لنا السر الثاني والأعمق فيما يخص الأعمال الفنية الأخيرة لكاندنسكي: تماهي الرسم التجريدي مع الكون. وهذا ما يمكن تحقيقه عبر إلغاء الرؤية الحسية المباشرة للأشياء واستبدالها برؤية جمالية خالصة للشكل تنطلق عبر نفاذية الحدس إلى عالم روحاني Monde spirituel، فالمنظومات البنائية الخالصة لديه تحدث تناغما بين (الضرورة الداخلية) وروحانية كونية تشكل قوانين كلية تعتمل خلف جميع مظاهر الأشياء المرئية بطابعها الفردي المادي، ومن هنا جاء الشكل الخالص لديه ليستوعب من الإسقاطات التأملية للذات التي تحرّرت من فرديتها، والسمو بها في تأملها المجرد إلى الجمال في ذاته من خلال الانفتاح على المطلق وعلى حركة الوجود اللامتناهية والتي يطلق عليها كاندنسكي موسيقى الأكوان . ضمن هذا السياق يتساءل الفيلسوف الفينومنولوجي الفرنسي المعاصر ميشيل هنري في كتابه رؤية اللامرئي: حول كاندنسكي عن ما إذا كان من الممكن القول –فيما يخص هذه المسألة- بأنّ بنية الفن وبنية الكون هي آخر المطاف واحدة بحسب كاندنسكي . والحقُ أننا أمام الجلال المُلغز للوحاته ينتابنا إحساسٌ وكأننا أمام عالم آخر. إنه عالم مختلف بالكلية عن العالم الذي ندركه في حياتنا اليومية، في الوقت الذي لا يثير فينا العالم المألوف أي إحساس أو انفعال مماثل حينما نشاهد لوحات كاندنسكي. ولا عجب، من ثمّ، أن يتسلى هذا الأخير مرارا وتكرارا في ابتكار سلسلة من العوالم غير موجودة بالفعل، كسلسلة "العوالم الصغيرة" مثلا . وسواء أكان ذلك تحت تأثير الهندسة المهيمنة Géométrie dominatrice أو ألق الألوان غير الواقعية، ولكن ومع ذلك فإنّ كل هذه العوالم كانت "مجردة" ولا علاقة لها بعالمنا. والحقُ أنّ كاندنسكي قد توسم في التكوين الفني هذا، عناصر بنائية متحرّرة من قيود المحاكاة الواقعية، فقد اعتمد في تشييده للشكل الخالص" المجرد" على ما يظهره (اللون والخط) من قيم جمالية في ذاتهما، مستهدفا من عملية التشكيل إظهار علاقات شكلية مجردة خالصة دون أن تندرج هذه العناصر في موضوع ذي دلالة محددة أو أية محاكاة لشكل بعينه، فقد تركز الفعل الفني وعمليات الأداء على ما يحصل من خلال ذلك من علاقات ترابطية بنائية بين اللون والخط وتباين السطوح في ملمسها وانسجامها، فظهرت هذه العناصر لتتفاعل في مستوى المسطح التصويري . وبذلك بدأنا نتعود على هذه القطيعة الموجودة بين الفن والواقع. بيد أنّ ما هو مثير فعلا في هذه اللوحات الأخيرة هو ذلك الانطباع بالتواجد في عالم ليس عالمنا المألوف بطبيعة الحال ولكن ومع ذلك في بُعد من الوجود مماثل له .
لا شك أنّ الرسم التجريدي منطلق لسبر أغوار الحلم وبإمكان كل إنسان إسقاط نفسه، ومثلما يحدث في رائز رورشاخ Rorschach الذي نفسّر فيه بُقع الحبر بحسب كُربنا ورغباتنا. هذا، ويعتقد البعض أنّ لوحة القوس الأسود التي رسمها كاندنسكي عام* 1912عمل "تنبؤي" لما تضمنته من شعور مسبق، وقد صاغه كاندنسكي بلغته الخاصة، بالمواجهات القادمة التي عرفتها الحرب العالمية الأولى. وعلى الرغم أنّ هذا الرسّام ليس وسيطا أو عرّافا فإنّ التحليل التشكيلي لهذا العمل الفني يسمح لنا بقراءة اضطراب الفنّان وقلقه أمام التهديدات التي تحيط به . وليس من شك أنّ للفنّان ما يقوله لأنّ مهمته لا تكمن في التحكم في الشكل وإنما في تكييف هذا الشكل مع المضمون. ولا يحق للفنّان أن يعيش بدون واجبات، فمسؤوليته عظيمة، لأنّ مشاعره وأحاسيسه وأفكاره مرتكز أساسي لإنتاج الأعمال الفنية. وهذا بطبيعة الحال عبر تجربته القادرة على إعطائنا المضمون الباطني الحقيقي للفن. لهذا السبب كان كاندنسكي يؤكد كثيرا على أنّ مسألة الشكل تتوقف على المضمون نفسه الذي يحدّد ما يسمى بالانسجام أو التوافق الداخلي فيما يخص العناصر الأساسية الخارجية الزائدة والعابرة التي قد تحجب عنا الجانب الروحي-الباطني للعمل الفني. لقد كان شغله الشاغل الوصول إلى الشكل الفني المطابق للضرورة الباطنية التي يعبّر الفنّان من خلالها عن الجانب الروحي و"صداه الداخلي" بواسطة ما يتمتع به الفنّان من ثقافة عصره وإرادته لإيصالها إلى غيره لأن هذا الصدى هو في حقيقة الأمر روح الشكل الذي يستوحي منه وجوده على المستويين الداخلي (الباطني) والخارجي. الشكل هو التعبير الخارجي عن المضمون الباطني . ضمن هذا السياق ربط كاندنسكي الفن بالمعرفة الميتافيزيقية والروحية حتى يتسنى له المرور إلى ما فوق الظواهر الحسية والواقعية ومن ثمة الوصول إلى معرفة الماهية الخاصة بهذه الظواهر نفسها. لذلك وجب على الفن التجريدي في رأيه تشكيل نوع من القطيعة مع تمثّل الأشياء الخارجية أي تمثّل المرئي، كشرط ضروري 
 قصد إدراك اللامرئي. غير أنّ هذا لا يعني أنّ التعبير الفني التجريدي لا صلة له بالكلية بالواقع العيني وبدلالة الشكل-من حيث صلتها بالضرورة الداخلية وقدرة الفنّان على التحكم في الأشياء وإعادة تشكيلها وفق قوانين البناء الفني الخاصة به بحيث يمكن أن يدركها الجمهور أو المتلقي . ولكن ومع ذلك، لم يكتف كاندنسكي بتجريد ترسيمات بناء أو ما يسمى بإعادة بناء العالم هندسيا كما فعل ذلك الفنّانون التكعيبيون (جورج براك، بابلو بيكاسو، فرناند ليجيه، روبير دولوني) الذين لم يستطيعوا التخلص من الطابع التشخيصي في لوحاتهم الذي كان سائدا في تقليد فن الرسم الغربي . لذلك لا يحيلنا الرسم ولا لون اللوحة التي يرسمها كاندنسكي إلى مشهد خارجي. وبالتالي لا يمكننا تأويله بواسطة الأشياء أو الرموز.بيد أنّ كل خط وكل لمسة تحمل معناها في ذاتها، وبذلك فهي تتضمن قوة يجب أن تؤثر فينا مباشرة من دون أن تحيل إلى واقع خارجي عن اللوحة . وتبعا لذلك فإنّ التعرّف على هذا الباطني أو الروحي يتطلب من دون شك تركيزا معتبرا من طرف الفنّان لأنّ الأمر يقتضي منه تجاوز الجانب الخارجي وتوجيه الاهتمام نحو الجانب الباطني والتجريدي. وعلى هذا الأساس يمكن أن نذكر مثالا هنا بالقيمة الباطنية للون، وذلك حينما تحدث كاندنسكي عن لوحات الرسّام الفرنسي الكبير دولاكروا Delacroix. فمن المعلوم أن عند هذا الأخير كان الأصفر والبرتقالي والأحمر مجرد ألوان للتعبير عن الفرح والغبطة والسرور. وهذا يعني أنّ هذه الألوان الثلاثة –وبغض النظر عن عما تمثله من أشياء- كانت تتضمن قيمة ذاتية أو باطنية لها دلالتها الفنية بحسب كاندنسكي .
ضمن هذا السياق يرى ميشيل هنري أنّ فاسيلي كاندنسكي كشف لنا تحليله ﻟ "عناصر" فن الرسم أنّ هذه الأخيرة مزدوجة، فهي "خارجية وداخلية"، أي أنها في الوقت نفسه مرئية وغير مرئية. لذلك جاز لنا القول إنّ اللون سينتشر أمامنا في جزء من مساحة اللوحة الفنية ويتبدى لنا كشيء خارجي. ولكن ومع ذلك لا يمكن أن نجد شيئا ما أو "لونا" في ذاته مثلما لا يوجد حجرٌ حارٌ أو مؤلمٌ أو قلِق. فالحرارة والألم واللون هي مجرد إحساسات وانطباعات، أو على حد تعبير روني ديكارت Descartes René هي "أحوال نفسية". وهكذا، فإنّ الوجود الحقيقي للون الأحمر مثلا هو مجرد انطباع، وبالتالي للشيء المرئي نفسه؛ وهذا ما ينطبق أيضا على اللون الأزرق والأخضر والأصفر، الخ. ومن خلال ذلك نجد أنّ رسم اللون الأحمر يعني-من دون شك- رسم لهذا الانطباع المحدّد، ولهذا الإحساس العنيف المتعلق بالحياة نفسها. والحقُ أنّ هذا هو ما يدفعنا إلى القول بأنّ اللون الأحمر هو بمثابة "لون للحياة". أما رسم اللون الأزرق فيعني رسم السِلم، بحيث يترك لنا بصورة هادئة ما يبتعد عنا. أما اللون الأصفر –المقبل علينا كإنذار أو تهديد، فهو يثيرنا .
والحقُ أنّ كاندنسكي كان قد أسس هذه الرؤية الجمالية انطلاقا من نقده لمقولة المحاكاة Imitation التي كانت سائدة في الحقل الفني منذ زمن طويل، من حيث هي تمثيل أو تصوير لشيء ما والعمل على إعادة إنتاجه، سواء كانت من منظور أفلاطون وهم وخداع أو عند أرسطو الذي رد لها الاعتبار وأشاد بوظيفتها المعرفية أو الفنية. يقول فيليب سيرس بصدد أهمسة الناحية الباطنية أو الداخلية عند كاندنسكي ونقده للمحاكاة: "إنّ القطيعة الجذرية التي أقامها كاندنسكي مع الفن التشخيصي المحاكاتي La figuration mimétique كان من دون شك مرتبطا باكتشافه لقيمة الحياة الباطنية، كما أنّ انتقاله إلى الفن اللا تشخيصي Art non figuratif كان بمثابة اكتشاف لمضمونه الحقيقي. أما وظيفة هذا الفن الأساسية فهي الكشف عن الواقع اللا مرئي . وتبعا لذلك، يستبعد من الشكل الفني تمثيل الأشياء الموضوعية في صورها المحسوسة والمتجسدة في العالم المرئي، فأخذت بنائية الشكل الخالص لديه تنطوي على تشكلات لا محدّدة، فقد استهدف من الشكل الفني إظهار الفكرة البنائية أو المبدأ الجمالي الكلي، لتحل الفكرة محل الصورة الشيئية، وذلك بالاعتماد على الجانب التكويني للعلاقات الشكلية بصيغتها التجريدية، ونتيجةً لهذا ابتعد التكوين الفني عن التجسيمية والمنظورية ومبدأ التسطيح في مكونات اللوحة، فاختفى الفضاء المنظوري التقليدي فيها ليستعاض عنه بفضاء لا متناهٍ . ولكن ومع ذلك فإنّ المشاهد قد يحار أحيانا أمام هذا الابتهاج البصري العجيب والمبالغات الزائدة للضوء، بل وهذه الأشكال الخارجية المتمايلة في وسط بلا ثقل، بحيث يتزايد فضاؤها الداخلي عبر فصل رقعة ضامتها الحُلمية، وهذه الأجسام اللامادية والميتافيزيقية التي تأخذنا على غرة وتباغتنا، بحيث لا نستطيع غض النظر عنها وتجاهلها. غير أنّ كل ذلك يبحث بدون جدوى عن سر هذه الأشكال الصامتة والألوان الباهرة، ولكنه ومع ذلك لا يجد أي واقع أو مضمون آخر سوى جملة الألوان التي ليست سوى مجرد ألوان خاصة لهذه الأشكال التي لا تحيلنا إلى شيء يمكن التعرّف عليه انطلاقا منها، بل من حيث هي في حد ذاتها مجرد أشكال .ولكن ومع ذلك، لا يمكن اعتبار لوحات كاندنسكي –كما يرى الفيلسوف الفرنسي ألكسندر كوجيف-مجرد تمثّيل لأشياء ما وإنما هي بالأحرى أشياءٌ مرسومة. إنها "أشياء" مثل بقية الأشياء (الأشجار والجبال والكراسي والدول، الخ) فهي "أشياء"، ولكن ومع ذلك فهي أشياء مصوَّرة ولوحات "موضوعية". أما بالنسبة إلى اللوحة "الشاملة" فهي مثل الأشياء أي أنها موجودة بصورة "مطلقة" لا نسبية. لأجل ذلك، يمكننا اعتبار هذه اللوحة مستقلة عن "علاقاتها" بكل الأشياء الأخرى ما عدا علاقتها بذاتها، إنها موجودة على غرار وجود العالم. لذلك يجب أن نعترف في نفس الوقت بأنّ هذا هو السبب الذي جعل اللوحة "الشاملة" هي أيضا لوحة "مطلقة". لقد تحصل من هذا، أنّه وبخلاف الرسم "التمثّلي" عبر مختلف تحوّلاته الأربعة المتعلقة ﺒ "الرمزية" و"الواقعية" و"الانطباعية" و"التعبيرية" المتصفة بالطابع المجرّد والذاتي، فإنّ اللوحات الفنية "اللا تمثلية" أو "الشاملة والمطلقة" التي رسمها واسيلي كاندنسكي هي في حقيقة الأمر عينية وموضوعية. " .
ضمن هذا السياق يمكننا القول بأنّ عدم التزام الفنّان بالمحاكاة للمرئيات يوسع، كما يرى كاندنسكي، التعبير النفسي ويفتح المجال لإبراز الانفعالات الغامضة التي يعيشها الإنسان في مناخاتها على كثير من عدم الوضوح المرئي لها، وقد يحاول أن يبرز تلك المشاعر باستخدام التصارع اللوني تارة والانسجام اللوني تارة أخرى، محاولا أن يحمل بالخط واللون وتحركهما داخل لوحته ما تحمله الموسيقى إلى المستمع، وقد كان يورد تشبيه أعماله بالموسيقى كثيرا، وحاول التعبير باستخدام الأشكال اللونية المجردة، بعد أن تبيّن أنّ القوة التعبيرية في الفن التشكيلي لا تستند بالضرورة إلى دلائل بصرية، وقد استرسل لسنوات عدة في هذا الاتجاه . والحقُ أنّ ما أشرنا إليه بخصوص الألوان متعلقٌ أيضا بالأشكال "المزدوجة": الخارجية منها، وذلك لأنه بمقدورنا أن نتتبع بالرؤية التي رسمها على الورق أو اللوحة. أما فيما يتعلق بجانبها الداخلي فلأن كل شكل يمثّل في واقع الأمر قوة كامنة في حياتنا وحركة نابعة منها، وتعبّر أيضا عن اندفاعها ورغبتها، بل وعن ذلك الجهد الذي ينضب ويحوّل الألم إلى نقيضه وتجاه إرواء غليله عبر الفرحة والسعادة ولكل التركيبات الشكلية التي ابتكرها كاندنسكي . 
وفي هذا المضمار يقول هذا الأخير: "إنّ الحياة المجردة للأشكال الموضوعية المختزلة إلى الحد الأدنى، ضمن تفوق واضح للوحدات المجردة، تكشف بكل تأكيد الصدى الداخلي (أو الباطني) للعمل الفني. والحقُ أنه، وفي الوقت الذي تدعم فيه الواقعية الصدى الداخلي (أو الباطني) -من خلال استبعاد المجرّد- فإنّ عملية التجريد تدعم من دون شك هذا الصدى من خلال استبعاد الواقع. وفي الحالة الأولى، يحول الجمال الخارجي دون رؤيته، أما في الحالة الثانية، يلعب الموضوع الخارجي الذي تعودت العينُ على رؤيته هذا الدور" . والحالُ أنه لا يوجد فنان استطاع بعبقريته الفائقة القيام بتحاليل فيما يخص هذا الموضوع بالرجوع إلى التجربة الخالصة قدر كاندنسكي، لدرجة أنه حينما بلغ 14 سنة من عمره، شاهد بإعجاب كبير ألوانا خالصة منتشرة على لوحة الألوان قبل أن تمتزج بعضها ببعض مكوّنة بذلك عالم جديد لا علاقة له البتة بعالمنا. لقد كانت ألوانا "خالصة ": ولكن ليس لكونها سابقة عن عملية المزج بين الألوان ولكن بسبب انفصالها عن الموضوعات والأشياء ذاتها؛ لقد كانت ألوان لا شيء، الأحمر، الأصفر، الأزرق من حيث هي كذلك! وهذا ما يفسر لنا لماذا اختار كاندنسكي بعد مرور عدة سنوات رسم منظر لإحدى ضواحي مدينة ميونيخ لا من أجله هو وإنما بسبب شدة لون شاهده في النور المعاكس لما نبت من العشب تحت الشجر. والحقُ أنّ ما يلفت النظر هنا أنّ كاندنسكي قد قام بتجارب دقيقة وبمستوى تنم عن ذكاء نادر قد مكنته بوضع الأشكال الحسية في حالة مماثلة للألوان المسكوبة على لوحة الألوان فصلها عن كل ارتباط بعالم الأشياء وفك ارتباطها بكل المضامين المتعالية التي كان من الممكن تمثيله .
هذا ويعتقد كاندنسكي أنّ العلاقة بين بُقع الألوان الأساسية تخلق أولا وقبل كل شيء توترا داخل اللوحة. بحيث يشتد اللون شيئا فشيئا عندما يلتقي المجموع ويحدث التباين، علما أنّ الأحمر الحار يكون دائما مثيرا. أما سلّم الألوان الغالبة هنا فهي حمراء؛ اللون القرمزي للأسطوانة الموجودة على اليسار، الكتلة السميكة من الأحمر البنفسجي الموجودة في أعلى اللوحة، ومزيج من اللون القرمزي والبرتقالي من الكتلة الأساسية الموجودة على اليمين. والحقُ أنّ التباين الموجود هنا أكثر فعالية من الشكل الأزرق المواجهة لهذه الألوان الحمراء الثلاثة غير المتكاملة، بل على العكس من ذلك، يبحث عن التنافر من خلال ميلها إلى اللون الداكن والبارد في مقابل اللون البرتقالي المائل إلى الأزرق والبقعة الحمراء البنفسجية المائلة إلى لون أخضر عميق في مقابل القرمزي. لهذا السبب يمكننا اعتبار لوحات كاندنسكي "اللا تمثلية" Non-représentative لوحات "شاملة" أو أحادية الشمول" إن صح التعبير: فن خلق عوالم يتم فيها اختزال وجودها إلى ما تضمنه من جمال. بيد أنّ هذه اللوحات "الشاملة" تتعارض مع اللوحات "التمثّلية" أي ما يُسمى باللوحات "الرمزية" و"الواقعية" و"الانطباعية" و"التعبيرية". ولكن وعلى غرار اللوحات الأخرى، يمكن أن تُنجز تلك اللوحات من خلال الأنماط الأربعة التصويرية للرسم الملوّن .
هذا، وبدون الاستناد إلى طرق المنظور الخطي أو المنظور الهوائي يمكن خلق توترات مماثلة بواسطة لعبة الألوان في اتجاه العمق. إنّ اللون الأزرق -كما أشار إلى ذلك كاندنسكي- محكوم بحركة متركزة Concentrique يمكن مقارنتها بالحلزون الذي ينكمش في قوقعته ويبتعد عن المشاهد، في حين أنّ الألوان الحارة تحكمها حركة عكسية وبأكثر حيوية لاحتوائها على اللون الأصفر وبذلك فهي تلمع وتقترب منا. وهكذا، تخلق بقع اللون المختلفة مجالا للقوى وللقوى المتصارعة التي تتمحور بالطباق حول الرسم. أما الخطوط التي تحيط الشكل الأزرق فتصبح عنيفة أكثر فأكثر عندما تواجه الكتل الحمراء الثلاثة. في كل مرة، وكأنّ اندفاعا داخليا ينفخها، فيبرز نتوء يصل فيه اللون إلى أعلى 
 من مستوى الإشباع. وليس الخط هنا حلقة أو مجرد حد بل هو حركة تتبعها الرؤية وتتعلق به عضلاتنا. إنّ الخط يتضمن قوة والمواجهة التي تنشأ بين هذه القوى المتكونة فيما بينها تستدعي التعارض من الناحية الفيزيائية. وحتى لا يؤول هذا التعارض إلى الانفجار تحكّم فاسيلي كاندنسكي في هذه القوى الثلاث بوسائل تشكيلية تحتفظ بالوحدة العضوية للمجموع. أولا وقبل كل شيء الخلفية المحايدة بقدر الإمكان: لون أبيض مصفّر يخفّف مثلا الأسطوانة الحمراء. 
هذا، ويُعتبر كاندنسكي أكثر من غيره من الرسّامين من عبّر بطريقة راديكالية عن استبعاد الموضوع الخارجي ورفض التشخيص الذي يرد فن الرسم إلى "عناصره" الخاصة. ولكن ومع ذلك فإنّ كل لوحة من لوحاته الفنية كانت بمثابة "عالم حقيقي" وكامل أي "عالم عيني" ومكتفٍ بذاته أيضا. والحقُ أنّ العالم، على غرار العالم اللا فني Non-artistique أي الكلية الأحادية للأشياء الواقعية ليس سوى في ذاته ومن ذاته ومن أجل ذاته. وبذلك لا يمكننا القول بأنّ هذه اللوحات الفنية "تمثّل" أجزاء هذا العالم اللافني.
إنّ أقصى ما يمكننا قوله هنا أنها أجزاء من هذا العالم. ويمكن القول في هذا السياق إنّ لوحات كاندنسكي تنتمي إلى العالم بالطريقة نفسها التي تنتمي فيه الأشجار والحيوانات والحجارة والبشر والدول والصور، الخ، وغيرها من الأشياء الحقيقية الموجودة في العالم وتكوّنه. ولكن، وفيما يخص "الجميل" المتضمن في لوحات كاندنسكي، من الأصح القول أنّ هذا الجميل مستقل عن جمال العالم وجمال الأشياء الموجودة في العالم. والحقُ يقال إنّ جمال كل لوحة من لوحات كاندنسكي هو جمال عالم شامل، أما مثل هذه الأعمال الفنية الجميلة فهي توجد –على نحو ما- بالقرب من الجمال الفني والفريد من نوعه للعالم الواقعي . 
وينتج عن هذا كله -بحسب ما ذهب إليه كاندنسكي- أننا (إذا قارن الفنّان بغيره من الناس الذين يفتقرون إلى الموهبة الفنيّة)، أنّه تقع على عاتقه المسؤوليات التالية: أولا، يجب على الفنّان أن يستعيد الموهبة التي عهدت إليه. ثانيا، أن تُسهم أفعاله وأفكاره وأحاسيسه في تطهير الجو الروحي. ثالثا، إنّ أفكاره وأحاسيسه وانفعالاته هي مواد لعمله الفني والتي تؤثر بدورها في هذا الجو الروحي، من حيث أنه يعبّر عنها بواسطة الأشكال والألوان التي تعتبر لغة هذه الأفكار والأحاسيس والانفعالات. وإذا كان الفنّانُ خادمَ "الجميل"، وجب أيضا أن يبحث عن هذا الجميل انطلاقا من مبدأ السمو الباطني أو الداخلي، الذي وجدناه إلى حد الآن في كل مكان. ولا يمكن أن يُقاس هذا "الجميل" إلا على مستوى السمو والضرورة الباطنية.


الهوامش:
1-وُلد فاسيلي كاندنسكي Wassily Kandinsky في سنة 1866 بمدينة موسكو. وفي عام 18966، وبعد حصوله على ديبلوم في العلوم القانونية والاقتصادية اتجه اهتمامه نحو فن الرسم. ثم سافر إلى ألمانيا ليشغل منصب أستاذ في أحد المعاهد الفنيّة. وانظم في عام 1911 إلى جماعة "الفارس الأزرق" Die Blaue Reiter التي كانت تضم فنانين كبار (فرانك مارك، هنري روسو) .وهذه التسمية أطلقها الفنانان واسيلي كاندسنكي وفرانك مارك 
( Frank Marc )على المؤلفات والعروض التي نادت عشية الحرب العالمية الأولى بالتجديد الكلي للأشكال الفنية في ميدان الفنون الجميلة، و خاصة الرسم ، الأدب والموسيقى. لقد تضمن المؤلف الذي صدر في ميونيخ ( Münich) سنة 1912 بعنوان حولية الفارس الأزرق مجموعة من المقالات التي كتبها كاندينسكي ومارك وشونبرغ Schönberg )) وماك 
( Macke ) الخ ، و التي شملت حوالي مائة و ستين نسخة من الأعمال الفنية المستمدة من ثقافات و عصور مختلفة معلنة بذلك – حسب بعض الكتاب – "عصرا روحيا جديدا" و" نهضة داخلية جديدة ". وبعد ذلك سافر إلى إيطاليا ليستقر في الأخير في باريس. ولكنه، وبعد قيام الثورة البلشفية في عام 1917 عاد إلى روسيا وعُيّن هناك كأستاذ في مدرسة 
الفنون الجميلة بموسكو، ثم في عام 19211 في أكاديمية الفنون. ولكنه، وبعد خيبة أمله في الثورة غادر روسيا واستقر في ألمانيا كمدرّس في معهد الفنون. هذا، وقد تميزت أعمال فاسيلي كاندنسكي بالمنحى التجريدي الذي اعتبره الشكل الفني الأقدر على التعبير عن أحاسيس ومشاعر ومفاهيم متباينة ومركبّة، عبر إبراز القوانين الكامنة وراء المظاهر قصد تحقيق القيم الجمالية. توفي كاندنسكي في عام 1944.

2-Wassily Kandinsky, Du spirituel dans l’art, et dans la peinture en particulier. Traduit de l’allemand par Nicole Debrand et du russe par Bernadette du Crest, Paris, éditions Denoël, 2004, p120. 
3- محمد أمهز، التيارات الفنية المعاصرة، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، 20099، ص 225.
4--Denys Riout, Que ce que l’art moderne ? Paris, éditions Gallimard, 2000, p 36.
55-علي شناوة آل وادي ورياض هلال الدليمي، بنائية الشكل الخالص في الرسم التجريدي الحديث، عمان، دار صفاء للنشر والتوزيع ومؤسسة دار الصادق الثقافية، 2012، ص266.

6-Michel Henry, Voir l’invisible :Sur Kandinsky, Paris, Presses Universitaires de France, 2005, p 230.
7-Roger Garaudy, 60 œuvres qui annoncèrent le futur. 7 siècles de peinture occidentale, Paris, éditions d’art Albert Skira, 1994, p 213.
88-علي شناوة آل وادي ورياض هلال الدليمي، بنائية الشكل الخالص في الرسم التجريدي الحديث، عمان، دار صفاء للنشر والتوزيع ومؤسسة دار الصادق الثقافية، 2012، ص262.

9-Michel Henry, De l’art et du politique, Presses universitaires de France, 2004, p 227.
10-Roger Garaudy, 60 œuvres qui annoncèrent le futur. 7 siècles de peinture occidentale, Paris, éditions d’art Albert Skira, 1994, p 209.
11-Philipe Sers, Kandinsky, philosophie de l’abstraction. Genève, éditions d’Art Albert Skira, 1995, p 12.
12-Wassily Kandinsky, « Sur la question de la forme », in L’almanach du blaue Reiter, le cavalier bleu, Paris, éditions Klincksieck, 1981, p 197.
13-Marie-Anne Lescourret, Introduction à l’esthétique, éditions ChampsUniversité Flammarion, 2002, p 88.
14- France Farago, L’Art, Paris, éditions Armand Colin, 2011, p 1699.

15-Roger Garaudy, 60 œuvres qui annoncèrent le futur. 7 siècles de peinture occidentale, Paris, éditions d’art Albert Skira, 1994, p 212.
16-Philipe Sers, Comprendre Kandinsky, Paris, éditions In folio, 2009, p 26.
17-Michel Henry, De l’art et du politique, Presses universitaires de France, p 2004.
18- Philipe Sers, Kandinsky, philosophie de l’abstraction. Genève, éditions d’Art Albert Skira, 1995, p 11.
199-علي شناوة آل وادي ورياض هلال الدليمي، بنائية الشكل الخالص في الرسم التجريدي الحديث، عمان، دار صفاء للنشر والتوزيع ومؤسسة دار الصادق الثقافية، 2012، ص 261.

20-Michel Henry, De l’art et du politique, Presses universitaires de France, 2004, p 224.
21-Alexandre Kojève, Les peintures concrètes de Kandinsky, Paris, éditions Lettre Volée, 2001, p 30.
22-.كلود عبيد، جمالية الصورة. في جدلية العلاقة بين الفن التشكيلي والشعر، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2010، ص 66.
23-Michel Henry, De l’art et du politique, Presses universitaires de France, 2004, p 224.
24-Wassily Kandinsky, Regards sur le passé et autres textes1912-1922. Traduction par Jean-Paul et Elisabeth Bouillon, Paris, éditions Hermann, 1974, p 154.
25- Michel Henry, De l’art et du politique, Presses universitaires de France, 2004, p 237.
26-Alexandre Kojève, Les peintures concrètes de Kandinsky, Paris, éditions Lettre Volée, 2001, p 35.
27-Alexandre Kojève, Les peintures concrètes de Kandinsky, Paris, éditions Lettre Volée, 2001, p 35.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تحسين التَّقبيح وتقبيح الحسن : حول صناعة المحتويات السَّافلة

في سؤال التغيير عبد الرزاق بلعقروز

التَّجربة و الآفاق الإدراكية الواسعة ..... عبد الرزاق بلعقروز