الفلسفة والعنف من واقع العالم القَابيلي إلى مثال العالم الهابيلي د عبد الرزاق بلعقروز


   صدر مؤخرا كتاب "طه عبد الرحمن"2017، الموسوم بسؤال العنف بين الإئتمانية والحوارية، وهو كتاب يعالج ظاهرة العنف في العالم الماثل اليوم، ولو أن العنف ليس إلاّ المجال الذي طبّق فيه منظور الفلسفة الإئتمانية التي فتحت أبوابا في التَّفلسف غير معهودة. 
إنَّ مبرر اشتغال الفيلسوف بالعنف؛ تأتي من سياق الاشتغال بضده أي العقل، والعقل يستتبع التَّعليل والتّدليل، كما يستتبع العنف التَّسيس و إرادة التسيّد في العالم، وعليه؛ فإنّ الفيلسوف الذي يبني الدَّليل ويصوغ الدَّعاوى ويحشد الحجج؛ سيكون في صورة متعارضة، مع الجهود التي تُغيّب الدَّليل ومستلزماته في الحوار والحِجاج والمحاورة؛ أو بعبارة مختصرة؛ في صورة مُتعارضة مع العنف، فالعقل الذي هو لسان حال الفيلسوف، والحوار منهجه في التَّواصل، وتفتيت إرادة العنف مقصده؛ سيكون باليقين ضَديد العنف واللاَّحوار وحبُّ التسلّط، وكأن فيلسوف الإئتمانية أوكل إلى الفيلسوف مهمة إصلاح العالم العنيف؛ وقَبْله إصلاح نفسيته العنيفة ببنائها فكريا وأخلاقيا.
لقد لفت "طه عبد الرحمن" النّظر من بدايات مشروعه؛ إلى أهمية الحوار وإتقان لغة الحجاج و الدّليل، في وقت كان الجمهور فيه ينجذب نحو التّجيشات السياسية، والتّحزُّبات الضيقة التي لا تتوسل بالدَّليل، وإنما بالمغالبة والقوة، ولسان حالها يقول بأنّها تنمو من حيث الأعداد ولاتنمو من حيث عمقها الفكري وجودتها العقلية.  فكان كتابه "في أصول الحوار وتجديد علم الكلام"1987، نوع من الإحساس المبكر بمآلات تغييب الدّليل الذي سينتج عنه انبثاق العنف؛ ولم يكتف فيلسوف الائتمانية بهذا اللَّفت الأوّلي، فقط، وإنما كتب سؤال الأخلاق،2000، تأكيد منه بتلازم الدَّليل و الأخلاق درءا لآفات التسلُّط والتسيّد، ولأن القراءات العجولة لم تأبه إلى هذا التلمُّح المبكّر، وكانت تفكر في طه عبد الرحمن، بلغة أنّه جُبّة مقامية وحالية ليس إلاّ، على عهد العقل  العربي العجول؛ الإختزالي و التبسيطي في الآن نفسه؛  فإنها استفاقت على العنف وبصورة غير معهودة، وأحد منابع هذا العنف، هو فقدان البناء الفكري، وفقدان القوة الاستدلالية للعقل المعاصر، والإنسياق خلف أفكار الحركات وبرنامج الحركات وخيار الحركات.
إن كتاب سؤال العنف، يقدم فرضية كلية، تفسر أسباب هذا الإندفاع الإنساني نحو العنف، وهي : أن حبّ التسلُّط استبدّ بالإنسان، وبعد هذه الفرضية، ينبثق سؤال آخر : هل من سبيل إلى خروج الإنسان من هذا التسلّط حتى يرتفع العنف؟ كي نقي أنفسنا شرّ العنف ؟. وبخلاف فلاسفة اليأس من إمكان إصلاح الإنسان، بسبب الشر المنقوش في ذاته، أو فلاسفة الشر الجذريMale radicale، وبسبب مسار العنف الذي يمسك بالتاريخ؛ فإن طه عبد الرحمن يرى بأن قدرة الإنسان أوسع من حتمية التاريخ، وقوته الروحية أقوى من نزعة التملّك النفسية، ولأجل هذا، بلور طه عبد الرحمن مفهومين لوصف كلا العالمين : عالم الدّليل والأخلاق، وعالم العنف وحب التسلّط، هما العالم القابيلي، والعالم الهابيلي؛ العالم القابيلي موصوف : بقانون الإحاطة، الذي يقضي بأن كل شيء سياسي، وبالتالي، كل شيء سيادي، وقانون الشُّمول، الذي يقضي بأن كل واحد سياسي، وعليه، كل واحد سيادي. وموصوف أيضا، هذا العالم القابيلي، بـــ: انتشار المصالح المادية في كوكب الأرض، وعالم يسوده التنازع بإطلاق، وإقرار القول؛ الذي يرى بأن الأصل في السلطة ليس أن تُسْتَحَق، وإنّما أن تُنتزع. وهذا العالم ينتهي إلى الهلاك حربا.
أما ضديد العالم القابيلي، فهو العالم الهابيلي؛ ويتصف بركنين أساسين هما : قانون عدم الإحاطة، الذي يقضي بأن ليس كل شيء سياسيا، وعليه، ليس كل شيء سياديا، وقانون عدم الشمول، الذي يقضي بأن ليس كل واحد سياديا، وعليه، ليس كل واحد سياسيا. وعن هذين القانونين، يصبح العالم الهابيلي موصوف بأن التسيّد أو التسيُّس أمر متروك للخيار و ليس الإلزام، وأن جوهر النّزاع فيه، ليس من أجل تحصيل الملك، وإنما تنازع لأجل تركه.
وفي سياق تطوير عدة مفهومية فاعلة من أجل الفهم والتوجيه؛ بلور طه عبد الرحمن مفهوم النّظر الملكي و النّظر الملكوتي، النّظر الملكي نظر في الظَّواهر الحسية، من غير اختراق لهذا العالم الحسي، نحو باطنه، بينما النّظر الملكوتي، هو نظر يتجاوز المحسوس إلى ما يتبطّن العالم من أسرار وقيم، وهذا، المفهوم، أي النّظر الملكوتي، لا يفصل بين "عمق التديُّن " و "عمق التفلسف "، وبين " الوجود بين الخلق" و الوجود عند الحق". ومبرر طه عبد الرحمن من بلورته لمفهوم النّظر الملكوتي، أنه طريق في النّظر معهود لدى الفلاسفة، سواء أكنا أمام الأوائل أم الأواخر، وبيان ذلك :
أن النّظر الفلسفي لا يكون فلسفيا بحق، حتى ينفذ إلى أسباب الظاهر، ويتغلغل في أعماق الموجودات، و النّظر الملكوتي نفسه، يتغلغل في معاني الأشياء.
أن فئة من كبار الفلاسفة كانوا يضعون إلى جانب هذا العالم الحسي عالما آخر، مثل " عالم المثل عند أفلاطون "، وعالم الشيء في ذاته عند كانط معرفيا، ومملكة الغايات عمليا، وميرلوبونتي الذي أقر بوجود عالم غير مرئي لولاه لما حصلت رؤية العالم المرئي. وصولا إلى فرضيات الفيزياء أو نظرية العوالم الممكنة في المنطق. وعالم الملكوت ينزل منزلة أحد هذه العوالم.
أن هؤلاء الفلاسفة، يجنحون دوما، إلى تفسير المحسوس بالمعقول، أو المرئي باللاّمرئي، أو المجسّد بالمجرّد؛ والنّظر الملكوتي يبلغ بهذه الطريقة في التفكير نحو معارج الروح أكثر.
لما كان الفلاسفة يميزن بين عالم الأسباب وعالم الأسرار، وينسبون إلى عالم الأسرار القدرة التفسيرية؛ فإنّ  عالم الملكوت يماثل عالم الأسرار، وعالم الملك يماثل عالم الأسباب.
أن الأدوات المعرفية عند الفلاسفة للإتصال بهذا العالم متعددة حسب الإتجاهات، بين من يرى في قدرة العقل نفسه على النفاذ إلى عالم الأسرار، وبين من ميّز بين رتبتين في العقل، رتبة النّظر الحسي، ورتبة النّظر العقلي، وهناك من قال بوجود قوتين إدراكتين مختلفتين في الإنسان، عقلية تختص بإدراك الظاهر، وباطنية تختص بإدراك الباطن، و الفلسفة الإئتمانية تستغرق هذه المراتب  كلها، من جهة قولها بوحدة العقل، لكنها وحدة متفرعة عن وحدة القلب، وتُقر بمراتب الفعل العقلي الإنساني، كما تقول بأن هناك أفعالا عقلية نفسية، و أخرى أفعالا عقلية روحية، والقوة العقلية النفسية نظرها إلى عالم الأشياء، أو الملك؛ والقوة الروحية  حركة عارجة نحو عالم الملكوت. ويكون هذا المنهج في النّظر؛ جامعا بين العناصر الأربعة؛ القلب و العقل والنفس و الروح، بحيث تنفتح للفلسفة الإئتمانية أبواب في التفلسف غير معهودة.
إن الغرض الرئيس، من هذه اللفتة إلى سؤال العنف، كما جاء في كتاب طه عبد الرحمن " سؤال العنف بين الإئتمانية و الحوارية "، هو لفت النّظر إلى مركزية الفعل الفكري و الفعل الأخلاقي، لأجل دفع العنف و التحرر من نفسية العنيف؛ وكأن الإنسان بمجرّد أن يكف عن البناء الفكري وتحفيز القيم الأخلاقية في الإنسان، يتصعّد العنف ويمسك بنفس الإنسان، بما يجعل حب التسلّط  بالإنسان من جديد، وبهذا، فإن النّظر الملكوتي الذي يرفض إختزال العالم والإنسان في أوصافه الحسية، له انعكاسات علاجية على الإنسان في بناء جانبه الأخلاقي المعنوي، أين تكون هناك الفطرة الأخلاقية التي لا تبتغي التسيّد، وإنما تزهد فيه، ولا تنازع الإله في مُلْكه كما يظهر في إتلاف حياة الغير بواسطة العنف، أو تعترض عليه، وعليه، يبسط النّظر الإئتماني روحا جديدة في الحوار، هي حوار المواثقة، وليس حوار المواجهة الذي ينظّر له فلاسفة الأخلاق المعاصرين .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تحسين التَّقبيح وتقبيح الحسن : حول صناعة المحتويات السَّافلة

في سؤال التغيير عبد الرزاق بلعقروز

التَّجربة و الآفاق الإدراكية الواسعة ..... عبد الرزاق بلعقروز