السُيولة أذاَبت قيم الحداثة ليس لأنها تكرهها، وإنما لأنها لم تكن صلبة بما فيه الكفاية... زيغمونت باومان يرحل من عالم السيولة. د . بلعقروز
رحل عنا
المفكر الفيلسوف و عالم الإجتماع زيغمونت باومان،1925/2017 الذي اشتهر بمفكر
السيولة، والأكثر اقترابا منها ومن مظاهرها المتعدّدة، إن باومان ليس سوسيولوجيا
خالصا، ولاهو فيلسوفا خالصا كذلك، إنما تنخرط طريقة تفكيره ضمن الفلسفة الاجتماعية،
أو سوسيولوجيا الفلسفة، وهذه الطريقة في التفكير تعبر عن حقيقة أساسية، مفادها،
عجز التَّفكير الفلسفي الخالص عن فهم وتحليل و تقويم حالة السيولة، وعجز السوسيوجيا
الخالصة عن فهم وتحليل و تقويم ما يحدث أيضا، من هنا، كانت خصوصية باومان في هذه
التركيبية التَّحليلية والتقوميمة، لفهم وتقويم المرحلة الحالية من تاريخ الحداثة
بما هي مرحلة ملمحها الجوهري هو الإذابة المتواصلة والإحلال السّريع للبنى
والنماذج، أو للعلاقات والقيم. السُّيولة هي الصورة المجازية التي طورها باومان
لفهم وتحليل وتقويم حالة الإنسان. لقد أدخل باومان السُّيولة كصورة مجازية لأجل
فهم وتحليل وتقويم حالة الإنسان الحاضرة، والسيولة تعني حسب باومان، الإيمان
المتنامي بأن التغيير هو الثابت الوحيد، وأنّ اللاّيقين هو اليقين الوحيد، وثنائية
الصلابة والسُّيولة، مجازات يقرأُ بهما باومان القضايا التي خمّن فيها، و التي
منها : التحرّر و الفردية و الزمان و المكان و العمل و الجماعة، فهو يرى بأن الوعي
الإنساني وعي نَزُوعُ بسليقته إلى وضع مواد صلبة أو قيم موجّهة، وحركة التَّحديث
في صميمها، وعي وسعي لأجل التخلّص من المواد
الصلبة، وإحلال مواد صلبة أخرى محلّها. ولعل من أولى المواد الصلبة التي قررت
الحداثة إذابتها، فيما يقول باومان، وأولى المقدّسات التي قررت تدنيسها، هي
الولاءات و الواجبات و الحقوق المعهودة التي تجعل في الفم الأقفال، وفي الأيدي
الأغلال.إن السيولة صورة مجازية، ومنهجية إجرائية، تتراتب فيها مستويات من الفهم
والتّحليل و التقويم، بمعنى فهم حالة الإنسان الحاضرة، وتحليل هذه الحالة، ثم
تقويمها. وحالة الإنسان في زمن الحداثة السائلة هي حالة الخائف من أسئلة المصير،
لذا تراه ينغرس في الإستهلاك خوفا من مجهول المستقبل، إنه إنسان تصادر حريته
الحقيقة، لصالح حرية وهمية، مقدساتها هي الإشباع الفوري، والسعادة الفردية. لتأتي
كتبه الأخرى لاختبار تطبيق هذه الصورة المجازية، في مجال الحداثة ومجال العلاقات
الإنسانية والحب الإنساني والرقابة والخوف.
إن أخطر خلاصة في فكر
باومان، هي الإقرار بأن جوهر حركة التَّحديث لا تبغض الصَّلابة في حدّ ذاتها،
وإنما دخلنا عصر السُّيولة أو مابعد الحداثة، بسبب أن قيم الحداثة نفسها لم تكن
صلبة بما فيه الكفاية، حتى تقدر على التصدي لروح التحديث القائمة على الإذابة
والصّهر، وهكذا فإن ملمح الحداثة السائلة هو : إنهيار الإيمان بالغائيات و الكمال.
ونزع الضّوابط الحاكمة وخصخصة الواجبات و المهام التّحديثية.
ليس نقد باومان مجرّد نقد سلبي إرتكاسي، و
إنما يُوجّه الإنسان الحديث، إلى أهمية تقوية التَّماسك الإجتماعي، وخلق وعي
إجتماعي وإعادة الاعتبار للمسؤولية الاجتماعية في مقابل الفردية المنكفئة على
ذاتها. إن التحرُّر من ثقافة الإنكفاء على الذّات، والتمركز حول الجسد، والاستغراق
في الإستهلاك، لا يكون إلاَّ بإحياء المجال العام، وتقوية التفاعل الإجتماعي، أو
بلغة إدغار موران : خلق التضامن ضد التشرذم و التجزيئية، والمؤانسة ضد تقهقر جودة
الحياة و التّخليق ضدَّ اللاّمسؤولية و الأنانية.
تعليقات
إرسال تعليق