الحج ...رحلة القلب نحو الصَّفاء الجزء الأول بقلم د عبد الرزاق بلعقروز
سأكون صادقا و أنا أكتب
هذه الكلمات التي هاج بها الخاطر و أنا في رحلة الحج الرّحلة التي يخفق لها قلب
الإنسان المسلم والتي لا يهنأ قلبه إلاّ وهو مؤدّي للركن الخامس من أركان
الإسلام، حتى و إن لم يدرك أبعادها النّفسية والأخلاقية، ولم يعرف مضامين شعائرها
إلا أَنّ تكليفا شَرعيا، قد أقامه وجعله كما نقول في اللّهجة الجزائرية
" يغسل عظامه" هذا على الأقل لدى جمهور المسلمين.
أما تجربتي الشَّخصية في الحج، وهي وإن
جاءت في ظرف علمي يتعلق بمشاركتي في إحدى المؤتمرات العلمية، إلاّ أنّها كانت رحلة
تأملية حول رحلة الإنسان أو سفره نحو البقاع المقدَّسة، التي لم أرى فيها، إلا
رحلة من أجل صفاء قلب الإنسان، ومن أجل أن يعيش الإنسان معنى الإسلام في
شعائر جمعت في رموزها "خلاصة الأديان". الحج قَصْدُ نحو بيت الله
الحرام، طواف حول البيْت، سعيُ بأشواط، اعترافُ أمام الله بالذّنب ورجاء في
المغفرة. التقاء بأجناس كثيرة جاءت كلها تُرَدّدُ نفس الصيغة " لبَّيك اللهم
لبَّيك ". حاملة في أشواقها تلك النّظرة إلى الكعبة الشريفة التي تصاحبها
دمعة، ودعاء، واستجماع لكل قوة في الإنسان ،كي يدعو ويبتهل ويناجي، لأنه يعلم أنّه
أمام مكان قالوا له عنه، أو قرأ عنه، أن الدُّعاء مستجاب من أول نظرة
إليه، فكيف بأن يكون من المصلين في صحنه، أو من الطائفين حوله، ولسان حاله يلهج : سأطرح
حاجاتي كُلُّها هنا، سأبكي هنا، لأنني لا أريد أن أرجع إلى بلدي و أنا
بنفس القلب الذي جئت به.
في الطائرة من الجزائر إلى قطر ...
حملت أغراضي سلَّمت على عائلتي، قبّلت
أولادي تقبيلا حارا، بكت ابنتي الكبرى "ألطاف"، قالت " بابا"
سأشتاق إليك، قلت لها لا تبكي أنا ذاهب إنشاء الله إلى الحج، فقالت لها أمها.. نحن
من نبكي على أنفسنا يا ألطاف، أباك ذاهب إلى الحج، ونحن متى يكتب لنا الله أن
نذهب. ثم قلت لابنتي : إنشاء الله أُحضر لك لعبة جميلة معي، أطلّت بابتسامة وقالت
نعم، وقد كنت من أيام و أنا أقول لها، سأحضر معي لك ماء زمزم، فأضحت تقول كل يوم
"بابا" زمزم...زمزم... أعجبتها الكلمة. خرجت من بيتي متوجها إلى الجزائر
العاصمة، إلى هنا، لم يكن شعوري قويا فيما يتعلق بالمكان الذي أنا ذاهب إليه، ركبت
الطائرة وبقيت أنظر في وجوه الناس، وجزء منهم ذاهب إلى الحج... وكنت في الطريق
أقرأ بعض الأحكام الفقهية عن الحج، لكن كنت أقرأ فيها صيغة القانون
الآمر، وكانت بحوزتي أيضا، رواية المفكر الجزائري : مالك بن نبي ...لبّيك حج
الفقراء...فوجدت فيها قصة تلخّص كيف أن الحج فعلا هو رحلة قلب "إبراهيم نحو
الصّفاء ". و أن الحج مدرسة لإعادة بناء الذّات من جديد. وصلنا و الحمد لله
إلى قطر...كانت المدة هي ساعة، بين نزولنا وإعادة ركوبنا إلى جدة، هرولت إلى من
كان ينادي: جدّة، جدّة، جدة ....فوجدت أن أغلب من هو متجه إلى جدة يرتدي لبالا
أبيضا...والصف نحو طائرة جدّة يتحرك، سألت من كان إلى جانبي، أنا أيضا أريد أن
ألبس لباس الإحرام، هل تدلني على المكان. فقال لي : أنت حاج....قلت له نعم إنشاء
الله، لكنني بداخلي لم استوعب هذه الكلمة ومضمونها...لأنني لم أعشها بعد..
لباس الإحرام...الميقات في الطائرة
لبست لباس الإحرام..فتغير شعوري
قليلا..أنا متجرد من اللّباس العادي...ونحن عادة في الفلسفة تَبْرُق في أذهاننا
آراء لفلاسفة أفكارهم لها علاقة بما نحن فيه...تذكرت كلاما للفيلسوف جون جاك
روسو...إن الإنسان في حياته يحتاج إلى لحظات يعود فيها إلى الطّبيعة ...لكي
يتوازن.. فأوَّلتها بلباس الإحرام.. أنا في هذه الحالة أعود فيها إلى طبيعتي....
لا أرتدي مخيطا.... المخيط رمز للثقافة...رمز لفعل الإنسان....بينما لباس الإحرام
هو ملفوفة على بدن الإنسان تذكره بتكوينيته الأصلية ...تُذَكُّره بذاته
المنسية...تنقله من عالم التمايزات في الحياة الاجتماعية إلى عالم التماثلات في
الطّبيعة.
ركبت الطَّائرة القطرية المتوجهة إلى
جدّة، في مكاني الذي جلست فيه، وجدت في مكاني ما يشبه الحقيبة الصغيرة...اعتقدت في
البداية أنّها لفافة للغطاء...كما هي عادة الطائرات..لكن فيما بعد عرفت أنها شيء
آخر...شيء له علاقة برحلة الحج.
عندما ركبت في مكاني، الذي كان في
المنتصف...بقيت أنتظر من يكون إلى جانبي...بدأ الناس يدخلون الطائرة..وكنت في
مكاني الرجل الوحيد...على يميني امرأة.. و على يساري امرأتين...أحداهما حملت تلك
الحقيبة الصّغيرة وبدأت تفتحها...ولم أعرف ما فيها إلا عندما فَتَحَتْها
هي...سجادة صلاة، سبحة، وساعة تسبيح صغيرة......فقلت في نفسي : كل الأشياء هنا
تتكلم لغة الحج...وعندما كانت تلك المرأة تفتحها كانت تنظر إلى َّ...وكأنها تقول
افتح أنت أيضا حقيبتك...فقلت لها ...من أين أنتم ؟ فقالت نحن من رواندا؟ ذاهبون
إلى الحج...فبقيت أتأمل في هذه المجموعة.... الرجال و النّساء.. تعلوهم فرحة
وابتهاج...فقالت لي و انت من أين؟ فقلت لها ... من الجزائر...قالت: آه "
ألجيريا "...وكانت الغالبية من الحجاج نساء... لاحظت شيئا الأفارقة غالبيتهم
شباب...نساء ورجال....والصّينين و الماليزيين جلُّهم كبار السن.
تحركت الطائرة نحو جدّة، كنت أنظر في
ركابها...أجناس متنوعة تربطهم رابطة روحية، تعلوهم فرحة روحية، أخرجت كتابي الذي
اشتريته من سطيف من مكتبة البصائر، و بدأت أقرأ فيه...ماذا أقول عندما نصل إلى
الميقات...و فجأة طلب منا أن نملأ البطاقات التي ندخل بها إلى جدة..ملأت بطاقتي
...وبعدها طلبت مني المرأة الرواندية أن أملأ لها بطاقتها..فشرعت أنقل
المعلومات..وعندما لاحظت أنّني أُحَدّقُ في الجواز...قالت لي أسمي مدينة..نسبة
إلى مدينة رسول الله صلي الله صلى الله عليه وسلّم...ثم ناداهم كما يبدو لي
المسؤول... بأنّ ملء الجواز على عاتق الوكالة التي جاءت بهم . فسلمت لها جوازها...
اقتربنا
من الميقات...جمعت نفسي استعدادا لبدء النية.. وأنا أخشى أن لا أكون وفق ما هو
مطلوب...ربما أنسى شيئا...في كل مرة أُخْرج الكتاب للتأكّد...أعلنت الطائرة أننا
وصلنا الميقات... نهض البعض ممن كنت أظنهم مسافرين.. ولبسوا لباس الإحرام... وهكذا
أضحت الطائرة كلها وكأنّها أحرمت هي أيضا. أما أنا فقلت : لبيك عمرة متمتعا بها
إلى الحج...بصوت خافت...كانت المرأتين الرُّوانديتين تنظران إليّ...فهمت قصدهما...
ماذا تقول كي نقول نحن أيضا...بادرت قائلا : ما هو نوع حجكم ..فقلن : حج تمتع..
قلت لهما... إذن قولا : لبيك عمرة متمتعا بها إلى الحج..فأضحت ترددان معي هذه
الكلمة مرات...وقبل أن نبدأ بالتلبية قالتا جازاك الله خيرا... أنت
شيخ...أنت معلم ... لكنني قطعا لم أقل لهما أنني متفلسف...
بعدها بدأت أصوات متفرّقة وخافتة في
الطائرة تقول " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد
و النّعمة، لك و الملك، لا شريك لك.. كانت هذه المعزوفة في البداية غير منسجمة، ثم
ما لبثت أن انتظمت...توقف البعض لكي يسمع الآخرون.. ويبدأ من حيث بدؤوا....ثم
مالبثت أن أضحت التّلبية مقطوعة موسيقية منتظمة في أجمل صورتها..الكل يردد
التلبية" لبيك اللهم لبيك، لبيك لاشريك لك لبيك ، إن الحمد و النّعمة، لك و الملك،
لا شريك لك....الكلُّ يحفظها...الأفارقة، الآسيويين، الأوروبيين، الأمريكين،
الروس، العرب....وأضحت زوايا الطائرة كلّها تصدح بهذا النّشيد الإيماني...
يتملكك شعور قد تتبعه دمعه، من هذا
الاجتماع، ومن هذه الوحدة، من هذه الرّوحية التي تنشد قصيدا، و تُكَرُّر مقطوعة
فنية جليلة....
يتبع ....
من امتع مقالاتك استاذ التي قراتها حج مبرور و ذنب مغفور و سعي مشكور ننتظر بقية المقال لنعيش معك قصة الحج كاملة وفقك الله لما فيه خير دمت معلما للقيم
ردحذفشكرا لك طالب هاجر... هذا من نبلك و صدق كلامك تحياتي الأخوية
حذفبإنتظار بقية المقال، سلمت يداك
ردحذفhttp://www.abderrezakbelagrouz.co.vu/2016/09/2.html
حذفاللهم اكتب لنا حجة في ربيع اعمارنا و تقبل منا يارب
حذف