حوار الأديان .. من وجهة نظر المنهج المركب.. د عبد الرزاق بلعقروز
إن ظاهرة الأقوال الكثيرة حول
ضرورة حوار الأديان في عالم اليوم، في المجال: الدّيني والسياسي والفكري.. تؤكد
على جملة من الحقائق الهامة التي من الأَوْلَى الإشارة إليها، وفي مطلع هذه
الحقائق، تراجع الرؤية الحداثية إلى العالم، التي جمَّدت الدّين في نطاق خاص، وأبصرت
فيه جملة من الاعتقادات التي تعوق حركة الإنسان نحو التقدم؛ وتشكَّلت ثقافة
العلمنة التي ترى في البشر، أنهم جماعة من المواطنين و ليسو جماعة من العبيد؛ وطردت
الدين من المجال العام، ليستقل العقل الإنساني بعدها في تدبير الشّأن السياسي، إلا
أنّ هذه الصيغ لم تعد تتمتع بالوجود السَّعيد لذاتها، لأن الدّين يعود اليوم ضمن
حقبة جديدة يسميها " يورغن هابرماس" بـــــــ حقبة : مجتمعات ما بعد
العلمانية، التي تحفظ للدين قيمته، وتؤكد على دوره في المجال العام؛ لأن
الأديان -برأي هابرماس- باتت تجتذب الجماهير أكثر من أيّ شيء آخر. والحقيقة
الثانية، أن كثرة الأقوال حول حوار الأديان كمحدّد حسَّاس في تدبير العلاقات بين
الناس، ونشوء ما يسمى في المعجم السياسي، بالديبلوماسية الدّينية، يؤكد على أنّ
الطبقة العميقة في جيولوجيا الثقافات الإنسانية هي طبقة الرؤية الدينية، وما يظهر
من محدّدات ثقافية، ليس إلا ألوانا أو غِشاءات غير سميكة وعميقة، والسَّميك العميق
فعلا هو العُمق الدّيني للإنسان؛ ولهذا السَّبب نشهد اليوم عودة مُلْفِتة إلى
الحوار بين الأديان، كعنوان حضاري في إدارة العلاقات بين الإنسانية ككل، والارتكاز
في هذا الحوار، على ماهو عميق وليس على ما هو سطحي.
إنَّ
الذي دفع بنا إلى هذا الالتفات لمسوغات حوار الأديان، هو التمهيد إلى فكرة جوهرية،
نرى بأنها تقدّم مدخلا مهما لتأسيس الحوار بين الأديان تأسيسا معرفيا؛ أسميناه في
عنوان مقالتنا، بالأساس التّركيبي للحوار بين الأديان، وبيان ذلك كالآتي :
ثمة ثلاثة رؤى إلى العالم سائدة : الرؤية
المادية، والرؤية الدينية، والرؤية الإسلامية، وأغلب المذاهب الفكرية والفلسفية
صدرت عن هذه الرؤية أو تلك؛ فمقولة الرُّؤية المادية هي الطّبيعة، بينما
الرؤية الدينية هي الضّمير، ومقولة الرؤية الإسلامية، هي الوجود المتزامن بين
الطبيعة والضَّمير في الآن نفسه، فهي الفلسفة ثنائية القطب، وجلُّ المُشْكلات تنشأ
عن هذا التَّعارض بين الطَّبيعة والضّمير، إرادة الطَّبيعة في أن تلغي الضّمير، أو
العكس، وبهذا النَّسق المتزامن بين المادة والروح في الديانة الإسلامية؛ تكون الحياة في حركتها الطبيعية وصورتها
الأصلية وحدة في اختلاف واختلاف في وحدة. وعن علاقة هذه المقدمة الفلسفية بالأساس
التركيبي للحوار بين الأديان، فيمكن شرحه كالآتي :إنَّ للإسلام تاريخان، تاريخ
سابق على الدين المنزّل في فترة النبي محمد صلى الله عليه وسلّم، وتاريخ لاحق مع
نزول الوحي في وقته، ومفهوم الإسلام السابق على محمد يتكون من مضمون ديانتين هما :
الديانة اليهودية، والديانة المسيحية،
فالأولى أي اليهودية، عُرفت بأنها ديانة العالم الأرضي، فالخلود بالنّسبة إليها،
ليس خلودا في الآخرة، إنما مملكة الخلود في هذا العالم الأرضي، فالدّيانة اليهودية
هي الديانة التي لفتت انتباه الإنسان إلى العالم المادي، ومن شعاراتها " الطَّبيعة
هي جسد الإله "، فاليهودية هي ديانة التوسّع التجاري في العالم، لذلك من الصَّعب
تاريخيا، أن تجد اليهود متواجدين في
مجتمعات الثقافة، أغلبهم يقيم في مجتمعات الحضارة، التي عنوانها: المال والسيطرة
على الحياة الاقتصادية، وحتىَّ في التاريخ أيضا نجد هذه الحقيقة، حيث أقَام اليهود
في حضارة إسبانيا الإسلامية، وقَبْلَها تَواجَدَ اليهود، في مدن صور وصيدا
وأنطاكية و القدس والإسكندرية. وقانونهم التاريخي دوما، هو الهجرة من حضارة آفلة،
إلى حضارة وليدة. إنها ديانة العالم الأرضي أو ديانة الطبيعة/ المادة .
بينما تظهر الديانة المسيحية في صورة متعارضة
مع ديانة الطّبيعة اليهودية، إنها ديانة الضّمير أو الرُّوح، التي بدلا من النمو
الكمي/المادي للإنسان، اتجهت إلى النّمو الكيفي/الأخلاقي، وعمارة الباطن الروحي،
وليس عمارة الظَّاهر المادي، فهي إتجاه معاكس لطريق الدّيانة اليهودية؛ إنها تجيب
عن سؤال كيف تحيا في ذاتك، وكيف تواجه هذا العالم المليء بالشَّهوات، يقول المسيح
عليه السلام " لا تقلق على حياتك فتقول ماذا ستأكل وماذا ستشرب". وسأله
الناس قائلين : وماذا نفعل إذن ؟، فأجاب قائلا لهم : "من كان له ثوبان
فليعط واحدا لمن لا ثوب له..ومن كان عنده
لحم فليفعل بالمثل". فالركيزة المحورية لديانة الضَّمير المسيحية، هي تنمية
الروح، والإعراض عن العالم الحسي، وبالتَّالي شطرت العالم إلى شطرين : إما أن تكون
مع الإله/ الروح/ وإما أنّك مع الشيطان/ المادة، ولاوجود لمنطقة وُسْطى بينهما، من
هنا، فإن العلمانية في صميمها خرجت من رحم المسيحية، وليس صراعا ضدّها. بمعنى أن
العلمانية نشأت من رفض المسيحية تدبير عالم المجتمع و السياسة، تركته فارغا بحجة
أنه مكان للإغواء، لأن روح المسيحية هي قوة الضمير، الصلاح صلاح النية الباطنية،
وليس صلاح الحياة الخارجية.
وعندما
يقول القرآن "لا يُكَلّفُ اللهُ نَفْسَا إلاّ وُسْعَهاَ "، إشارة نقدية
لهذا الإفراط المسيحي في الرّوحانيات، وتذكير للإنسان بحدوده في اكتناه الحياة الرُّوحية
الخالصة؛ ثم جاءت الحقبة الثانية من تاريخ الإسلام لكي تعيد بناء هذه العلاقة
المتعارضة بين اليهودية أوديانة الطّبيعة/المادة، والمسيحية أو ديانة الضّمير/الرُّوح،
في فلسفة إنسانية ملمحها الجوهري هو : الدّيانة ثنائية القطب، والوجود المتزامن
بين الطَّبيعة والضّمير، واللاّفت للنّظر أن الفيلسوف الألماني هيجل قال عن
الديانة الإسلامية، أنّها امتداد لليهودية، وهي نظرة صحيحة، لأن الطبيعة والفعل
التاريخي والتنظيم الاجتماعي و السياسي الذي جسّده المسلمون، ليست إلا امتدادا
للفهم المادي الذي اشتهر مع اليهود فيما رأى هيجل؛ وهي نظرة مسيحية، لا ترى من
الدين إلا بعده الروحي. وأركان الإسلام الخمسة تحتوي كلها على هذا الوجود المتزامن
بين الروح و المادة، فالصَّلاة تعبد روحي،
لكن ّ لها أبعاداَ اجتماعية و اقتصادية و سياسية، أي مادية، والزكاة تطهير للنّفس
روحيا وسُتْرةُ للفقراء ماديا، وفي كل أركان
الديانة الإسلامية، تتواجد هذه الصورة المتزامنة بين الطَّبيعة والضّمير، أو بين
المادة والروح، و بالتّالي فكلمة إسلامي ، لا تعني تلك الدّلالة السَّطحية
السياسية كشعار على حل جاهز، كلا ؟ إنها عنوان على منهج تركيبي يؤلّف بين
المبادئ و النّزعات المتعارضة، وهذا التنازع و الصراع هو الذي يطبع الحياة
الإنسانية المعاصرة.
وهذه
الصفة التركيبية، هي الأساس في التأسيس للحوار بين الأديان، لأنّها تتضمّن الطبيعة
و الروح، وفي الغالب أن الغائيةأي الإسلام كفلسفة أخيرة، تتضمن هذه التَّكاملية بين الأديان، فهناك كما
يقول سيّد حسين نصر ، المبدأ المطلق الواحد، الذي يتجلّى في العوالم الدّينية
المختلفة، وهكذا فالأساس التّركيبي للحوار بين الأديان، في صميمه تذكير بهذا
الوجود المتزامن بين اليهودية في صورتها المادية والمسيحية في صورتها الروحية، إنها تعبير عن المطلق في أزمنة مختلفة، وعرفت
صيغتها التركيبية مع الديانة الإسلامية، التي تعني الإعتراف بهذه الازدواجية
المبدئية للعالم، وبالتالي فالحوار بين الأديان هو حوار بين عناصر في منظومة كلية،
وغياب الحوار بين الأديان، هو نظرة بعين واحده لمفهوم الإسلام، بينما الدلالة
التركيبية للإسلام تضم النسيج الجامع بين عناصر الديانتين.
للإستزادة أنظر :
v علي عزت
بيجوفيتش، الإسلام بين الشرق و الغرب، ترجمة يوسف عدس، القاهرة: دار
الشروق، 2015. ط6.
v
يورغن هابرماس وآخرون، قوة الدين في المجال العام،
ترجمة فلاح رحيم، بيروت : دار التنوير 2013.
تعليقات
إرسال تعليق