من عقلانية الحداثة الغربية إلى عقلانية الإيمان التوحيدي: نحو حداثة إسلامية متصلة





الملخص
تهدف هذه الورقة إلى تسليط الضّوء على حدود مشروع عقلانية الحداثة الغربية، وإلى تطوير نموذج عقلاني آخر لا يقطع مع الإيمان التّوحيدي، بل يقصد بلورة مشروع الحداثة الإسلامية في أفقها العقلاني بمقدّمات توجيهية. وفضلاً عن ذلك، فإنَّ موضوع هذه الورقة يجد أسبابه في مظاهر النقص والتأزُّم في مشروع عقلانية الحداثة، التي منها: حذف القداسة عن المعرفة، ووحدة العقلنة والعلمنة، وهيمنة العقل الأداتي والحسابي. ومن جهة أخرى يرتكز مشروع عقلانية الإيمان التَّوحيدي على: تضافر العقل والإيمان من أجل ترشيد مسيرة الإنسان، ووحدة التفسير والقيمة في قراءة الطّبيعة، والتَّكامل بين الملكات الإدراكية.
الكلمات المفتاحية: رؤية العالَم، العقلانية، العلمانية، القداسة، الرؤية التّوحيدية، الوحي، الحقيقة، النّشاط المعرفي، نظام القيم.
From Rational Western Modernity to Rational Monotheistic Faith:
Towards a Connected Islamic Modernity
By Abd al-Razzaq Balaqrouz
Abstract
This paper aims at highlighting the limits of the Western Modernistic Rationalism project, and accordingly, developing a model of alternative rationalism based on monotheistic faith that helps toactualize the Islamic modernity project. One of the reasons for introducing this alternative project is to avoid the drawbacks of the rationalism of Western modernity, which strips knowledge from holiness, views rationalism only through secularism, and allows the dominance of the instrumental and computational mind. Monotheistic rationalism, however, is based on the integration of faith and reason in order to streamline human life, to accomplish unity of value and interpretation in understanding nature, and to maintain integration of human cognitive faculties.
Key words: Worldview; Rationalism; Secularism; Holiness; Modernity; Monotheistic Faith; Revelation; Truth; Cognitive Activity; the System of Values.


مقدمة:
لئن شكّل العقل في النشاط المعرفي والأخلاقي للإنسان قيمة حيوية، فإنّه قد استحال إلى مَرجعيةٍ قوية في المشروع الحداثي الغربي، ومبدأ من مبادئه. وجرى الارتكاز على العقل لا في المعرفة فحسب، بل في الدوائر والنظم الاجتماعية والسياسية والقانونية والتكنولوجية، حتى أضحى الملمحُ الجوهري للحداثة هو وحدة الحداثة والعقلانية. وتبعاً لذلك تبدّت ملامح حديثة في تصور العالَم والإنسان والحياة؛ إذ ليس من مُفردات معجم الحداثة العقلانية الكلام عن مشروع إلهي يحكم المملكة الإنسانية، أو عن أطر قومية تكون محدّدات للأنظمة الاجتماعية، إنّما بثّ أحكام العقل وأنشطته، وتوزيعها في قطاعات الحياة المتنوعة، وهو ملمح التعقيل l’intellectualisation)) بما هو مبدأ وغاية في الآن نفسه. إنّ مؤدّى هذا أو مقتضاه كما يقول ألان توران Alain Touraine)) هو "إقصاء الحداثة كلَّ نـزعة غائية، فالدنيوية وزوال السحر... يعبّران عن قطيعة ضرورية مع غائية الروح الدينية التي تُنادي دائما بغاية التاريخ، وتكون تحقيقاً كاملاً للمشروع الإلهي، أو فناءً لبشرية فاسدة ومُتنكّرة لرسالتها...[ ولهذا] ترتبط فكرة الحداثة ارتباطاً وثيقاً بالعقلنة. والتخلّي عن إحداها يعني استبعاد الأخرى."[1]
ونظراً لهذه الوحدة والمؤاخاة بين الحداثة والعقل، فإنّنا سندفع بسعينا التحليلي إلى استعراض ظروف هذه الوحدة، وأسرار تحوّل العقل من مصدر محدود إلى نـزعة تفعلُ فعلَها في غيرها، لننعطف بعدها على استعراض المآلات المحمودة والمذمومة التي جلبتها نـزعة العقلانية إلى الإنسان والعالَم، ثمّ نفكّر بعدها في إرساء دعامة وفَهْم آخر للعقل، لا يقطع مع الوحي الإلهي، ولا يتنكّر للقداسة ولا يُلغي مصادرها، بقدر ما يتواشجُ العقل والإيمان في نظام جديد؛ بغية الخروج من الحداثة المنفصلة عن تسديد الوحي، والإقامة في الحداثة المتصلة على النحو الذي يتحدّد في سياق الممارسة الإسلامية.
وفي ما يأتي أقوى المسوّغات التي دفعت بنا إلى التشاغل على مسألة العقل والعقلانية وحدود مرجعيتهما كما تبدّى لنا في سياق التجربة الغربية، والدفع -في المقابل- بجهدنا البحثي نحو الرغبة في تطوير مرجعية الإيمان الإسلامية للممارسة العقلية:
- إنّ ثمّة تحوُّلاً منهجيًّا وتاريخيًّا في الحضارة الغربية، من العقل بوصفه مصدراً من مصادر المعرفة موصوفاً بالمحدودية والإجرائية والتكاملية مع مصادر أُخرى كالحس والوحي من أجل بلوغ الحقيقة، إلى العقلانية بوصفها نسقاً فكرانياً[2] لا يُعطي دلالة إلاّ للموضوعات التي تستجيب لمبادئه ووحداته المنهجية مثل: الملاحظة، والفرضية، والتجربة، والصياغة الكمّية للواقعة، والترييض (استخدام اللغة الرياضية)، وما لا يقع أو يستجيب لهذه المبادئ والمناهج فهو من جنس اللامعقول، ومن ثم لزم إقصاؤه.
- إنّ كلّ مَنْ تولّى النظر في وسائل النهوض بواقع العالَم الإسلامي والعربي لم يتردّد في جعل العقلانية على رأس هذه الوسائل، مُشيداً بفضائل المناهج العقلية وفوائدها في تحصيل المطلوب من التقدُّم والتحضُّر.
- "إنّ هذه الدعوة إلى العقلانية التي تشترك فيها الفئات الإسلامية والعربية، على تباين اختياراتها العقدية، تزايدت في الشدّة والانتشار على مدى فترة استغرقت قرناً ونصفاً من الزمن، وامتدت من منتصف القرن التاسع عشر إلى نهاية القرن العشرين."[3]
- سَعْيُنا لنقد ظاهرة الغرور الإنساني التي أعلت من شأن العقل، وأضفت عليه كمالات الفعل الإلهي بحيث يَسُدُّ مسدّه، ويُغني عن الرجوع إليه؛ ويتجلّى ذلك في الادعاءات العريضة للإنسان الحديث مثل "السيادة على الطبيعة"، و"كشف أسرار الحياة"، و"امتلاك أسباب القوة التي لا حدّ لها"، و"تحقيق التقدُّم المُفضي إلى سعادة الإنسان"، و"إقامة أعدل نظام سياسي في العالَم"، و"التحكُّم في مصير الإنسانية"، و"ضبط مسار التاريخ ومآله."[4]
جليّة -إذن- المسوّغات التي دفعت بنا إلى مساءلة قيمة العقل والعقلانية، وبيان حدودهما كما تخلّقت في أنساق الثقافة الغربية، وبسبب هذا لزم تطوير نموذج آخر للعقل والعقلانية في صلة تفاعلية وجدلية مع الإيمان التوحيدي الإسلامي.
أولاً: وحدة الحداثة الغربية والعقلانية: الظروف والفضاءات
لا يأتي دمج مفردة الحداثة بالغرب في قولنا: "الحداثة الغربية"، من جانب حشر الحداثة في انتمائها الثقافي وموطنها الأصلي على سبيل التشهّي والتحكُّم، إنّما يأتي من مسوّغ أنّ هذه الحداثة ليست كونية، بل هي غربية المنشأ والتكوين، وأنّها تشرّبت قيم الغرب، بما هي قيم خصوصية لا قيم كونية. من هنا، لا يصح فهم ثقافة العقل والعقلانية إلاّ بإدراجها ضمن هذا المعنى. وحين نؤكّد أنّ ثمّة وحدة بين الحداثة والعقل والعقلانية، فإنّ مقصودنا بذلك أن العقل لم يكن في أنشطة الإنسان بما هو أداة إدراك؛ ولم يكن في صلة تقابلية ضدّية مع الإيمان الديني، كما أنّ العقل كان متواضعاً، لا يتجاوز الأطر والحدود التي لا تنطبق على موضوعاته، خاصة مع تجربة إيمانويل كانط(kant) النقدية التي وضعت العقل على المحك؛ إذ خضع لعملية تشريح لملكاته، وترسيم لحدوده، وبيان الاستعمالات المشروعة وغير المشروعة لهذه الملكات. يقول كانط في هذا المقام: "بما أن العقل الإنساني لا ينفكّ عن التّوق إلى الحرية، فإنه حين يكسر قيوده، ينقلب حتماً إلى استعماله الأول لحريةٍ فقد منذ أمد طويل التعوُّد عليها، إلى مغالاة وثقة متهوّرة في استقلال قدرته عن كل قيد، وإلى اقتناع بالسُّلطة المطلقة للعقل التأمُّلي الخالص الذي لا يقبل شيئاً آخر سوى ما يمكن تبريره بمبادئ موضوعية وقناعة دوغمائية."[5]
وهذا التهوُّر -بعبارة كانط للعقل- هو مدار الاعتراض؛ لأنّه مع بداية مشروع الحداثة الغربية، الذي كان من مرتكزاته الثقة بالعقل واستبعاد التوجيه الديني، استحال العقل من مجرّد أداة إلى قوة عليا يُحسب لها حسابها في أنشطة المعرفة والفعل الإنسانيين، وصار للعقل وظيفة توسّعية تتم بمقتضياته عقلنة فضاءات الحياة برمّتها، أو دوائر الثقافة بمحدّداتها جميعاً: عقلنة الفكر الديني، وعقلنة الفكر السياسي، وعقلنة أشكال التنظيم الاجتماعي، وعقلنة الممارسة الأخلاقية. وبهذا الاعتبار "فإن نظرية المعقولية يمكن وصفها بكونها إيديولوجيا العلم؛ لأنها تقدم مصفوفة من التصورات تحدد للعقل الإنساني الموقف الذي يقضي من منطلقه في كل أحداث العالَم والكيفية التي يقضي بها فيها."[6]
وتتجلّى فضاءات هذه العقلنة في ما يأتي:
1. عقلنة رؤية العالَم:
لـمّا اتجهت العقلانية، في مساراتها، إلى حذف القداسة من مصادر المشروعية ومنابع المعنى، اتجه مبدأ هذا الحذف بصورة خاصة نحو رؤية العالَم؛ لأنّها النواة المركزية التي تدور في فلكها جميع عناصر الثقافة الأخرى (المعرفية، والقيمية، وغيرهما). فرؤية العالَم ليست انطباعاً شخصياً عن العالَم المحيط بنا فحسب، إنمّا هي كيفية فهمنا للعالم، وطريقة التفكير فيه، ومقاصد الفعل الإنساني التي يسلك الإنسان من أجلها. فالرؤية موصوفة بالكلّية والشمولية. والعقل الحداثي قدّم لنا صورة "عقلانية للعالم تدمج الإنسان في الطبيعة، والعالَم الصغير في العالَم الكبير، وفي رفض كل ثنائية للجسد والروح، للعالم البشري وللعالم المتعالي... [لذلك] فالحركة المهيمنة في الفكر الغربي، منذ القرن السادس عشر هي الحركة المادية. كان يجري دائما اعتبار اللجوء إلى الله، والإحالة على الروح ميراثا لفكر تقليدي يتعيّن تدميره [كان هذا وغيره ] رفضا للتعالي، كما كان رفضاً صريحاً لانفصال الروح عن الجسد، ودعوة إلى وحدة العالَم والفكر المشكوم بالعقل أو البحث عن المصلحة والمتعة."[7] وهذا المنحى في التفكير اتجه بمقتضاه العقل الحداثي إلى "نـزع الطابع السحري عن العالَم، بعبارة ماكس فيبر، ويتجلّى هذا النـزع، حقيقةً للقداسة لا للسحر، في مظاهر شتّى أقواها ظهوراً:
أ. انقلاب الرؤية إلى الكون، وذلك من النظر إليه بوصفه مخلوقًا من ربٍّ رحيم وإله مبدع، إلى هيكل تنتظمه قوانين طبيعية داخلية، قابل للفهم، ولا يحيل إلى أيّة غائيات خارجة عنه، وهذا الفهم أداته القصوى هي العلوم والمعارف الفيزيائية التي هي أداة العقل الإنساني في مشروع الغزو العقلي للكون. ونتيجة لتنامي ظاهرة الثقة في رؤية العالَم المادية؛ بدأت ظلال الإله في الاختفاء، إلى أن حلّت النظرة الميكانيكية الآلية الكمّية محلّ الرؤية الدينية تماماً. ويُعَدّ الفهم الديكارتي الرياضي للطبيعة من أولى الوسائل التي جرى توظيفها لإنجاز هذه المهمة، فمقولة ديكارت "نجعل أنفسنا أسياد الطبيعة ومالكيها" طبيعة أخذت بوجهها الآلي، إذ قامت مسلّمته على علاقات تسيطر على طبيعة جرّدت من أي غاية خاصة."[8]
ب. قلب التراتب المسيحي بين الروحي والمادي، الذي يجد أحد مرتكزاته الفلسفية في الثنائية الأفلاطونية بين المثالي والمحسوس. فالجسد بمعناه الثقافي يُحَطّ من قيمته لأنّه رمز للخطأ والشر، في حين تستعيد قيمة هذا العالَم الحسي والقيم الجسدية الحيوية مرتبتها في أفق نظرة مادية إلى العالَم، فـ"ثمّة احتضان حميم لهذا العالَم ولهذه الحياة بوصفهما مسرح الملحمة الإنسانية كلها، مسرح سيرة الإنسان بقضها وقضيضها، حل محل النبذ الديني التقليدي للوجود الأرضي المبتذل بوصفه امتحاناً عسيراً مؤقتاً تمهيداً للحياة الأبدية. بات طموح الإنسان أكثر تركُّزاً على التحقُّق العلماني. بالتدريج تحوّلت الثنائية المسيحية الموزّعة بين الروح والمادة، بين الرب والعالَم، إلى الثنائية الحديثة القائمة على العقل والمادة، على الإنسان والكون، على وعي إنساني ذاتي وشخصي في مواجهة عالم مادي موضوعي ولاشخصي."[9]
ت. إفراغ العالَم من الفهم الذي يستند إلى مرجعية الوحي أو الكتب المقدّسة، وإحلال ذهنية العلم والرصد التجريبي للظواهر وصياغتها في رموز رياضية. وثمّة وحدة في اختلاف ضمن هذا المنظور؛ وحدة بين القائلين بأولوية العقل في النشاط المعرفي للإنسان، والقائلين بأولوية التجربة في النشاط المعرفي للإنسان أيضاً، فكلاهما قدّس عنصراً من العناصر؛ الأول: قدّس العقل، حتى لكأنّنا أشبه بظاهرة عبادة الفعل. والثاني: قدّس العالَم الخارجي الذي رفعه إلى مقام ينبوع القوانين التي لا تخطئ أبداً.
ث. معرفة العالَم لا تستند إلى أدوات إدراكية متعددة، تتكامل فيما بينها من أجل استكناه الحقيقة. فملكات الإنسان التجريبية والعقلية وحدها -من حيث المبدأ- لها الكلمة العليا، "في حين أنّ جوانب أُخرى من الطبيعة البشرية (عاطفية، جمالية، أخلاقية، إرادية، علائقية، خيالية)، تُعَدّ عموماً غير ذات أهمية أو مُشوِّهة أيّ فهم موضوعي للعالم. فمعرفة الكون باتت في المقام الأول قضية دراسة لاشخصية حصيفة، متمخّضة، عند نجاحها، لا عن تجربة روحية (كما في الفيثاغورسية والأفلاطونية) بمقدار إفضائها إلى تحكُّم فكري وتحسُّن مادي."[10]
ج. إذا كانت الكوسمولوجيا (علم الكونيات) الكلاسيكية تقيم تراتُباً بين عالم ما فوق فلك القمر، وعالم ما تحت فلك القمر (يمثّل العالَم الأول مأوى للكائنات العلوية والنماذج الأصلية للأشياء، وهو من طبيعة متفاضلة من حيث القيمة مع العالَم الأدنى، في حين تُبصِر فيه النظرة الحديثة إلى العالَم كوناً مفتوحاً يحوي داخله ما يكفي لتفسيره. علماً بأنّ هذا العالَم (ما فوق فلك القمر) لم يعد يرمز أو يحيل إلى غيره على سبيل القدرة وتأويل المستقبل)؛ فإنّها أضحت كيانات مادية تحكمها منظومة قوانين ميكانيكية مادية آلية، لا مكان فيها للقصد أو الغائية، وأضحى يُنظر إلى التأويلات الحيوية للطبيعة، بوصفها بقايا من الأنانية البشرية التي تريد أن تجعل العالَم على صورتها، وتخلع المواصفات الإنسانية على حركة الموجودات. وتبعاً لهذه الكوسمولوجيا المادية للكون، وخلافاً للنظرة المسيحية السائدة في القرون الوسطى، "بات استقلال الإنسان الفكري والنفسي الروحي، مؤكداً جذريا، مع تآكل متزايد لكل المعتقدات الدينية والبُنى المؤسسية، التي من شأنها إبطال حق الإنسان الطبيعي وقدرته الكامنة على العيش المستقل والتعبير الفردي عن الذات، وفي حين أن غاية المعرفة بالنسبة إلى مَسِيحِي العصر الوسيط كانت إطاعة مشيئة الرب الفضلى، فإن غايتها بالنسبة إلى الإنسان الحديث هي ابتكار أفضل وسائل جعل الطبيعة تمتثل لإرادة الإنسان."[11]
2. عقلنة التنظيرات الاجتماعية والسياسية:
نود الإشارة هنا إلى أنّ عقلنة رؤية العالَم ليست منفصلة عن دوائر الوجود الأُخرى. فهذه الرؤية هي المفتاح لفهم أسباب زحف العقلنة إلى هذه الميادين؛ ذلك أنّ العقلنة امتدّت إلى أسس التنظيم الاجتماعي والسياسي، بالعمل على خلخلة وإزاحة الأسس الدينية التي كانت دعامة التركيب الاجتماعي؛ إذ جرى توسيع الحلم من عقل يختص بالمعرفة إلى مجتمع عقلاني يحكمه نظام العقل. وعبارة هيجل الشهيرة "كل ما هو عقلاني واقعي، وكل ما هو واقعي عقلاني" تُلخِّص بقوة هذه الوحدة بين نُظم العقل ونُظم المجتمع، ويستتبع هذا المنظور تحويل المقولات الدينية وعلمنتها، حيث يكون محدّد المجتمع الأساسي هو المنفعة، والإنسان ليس سوى مواطن، والرحمة المسيحية تستحيل تضامناً، والمواطنة مؤاخاةً، ومحكمة الضمير تصير هي التضامن، ويحلّ رجال المحاكم والإداريون محلّ المبشّرين ودعاة المجتمع الديني، ويتكوّن تبعاً لهذا فهمٌ آخر للنُّظم الاجتماعية يعني "إخضاعاً تدريجياً لمجموع العلاقات الاجتماعية إلى معايير القانون الصوري، ويرتبط انتشار هذه المنظومة القانونية؛ أي فكرة التقنين الشامل لكل العلاقات، بنمو كمّي للديمقراطية. هنا فحسب يمكن فهم هذه العقلنة الملازمة للتحديث كمسار لإحلال الديمقراطية، وهي ديمقراطية تتوقف على نسيج من المؤسسات والقواعد والإجراءات التي يتم تركيزها بسعي من الدولة وتحت سلطتها."[12]
تتعاضد مع هذه العقلنة للمجتمع عقلنة أخرى للتنظيمات السياسية؛ إذ لم تعد الصلات بين أفراد المجتمع صلات تراحمية، بقدر ما أضحت صلات برّانية خارجية يتحكّم فيها القانون أكثر من أيّ شِرعة قيم أخرى، إنّها علمنة وحذف لأيّة أسس وغايات دينية ترتبط بالتنظيمات السياسية، ثمّ جرى الفصل بين الدين والسياسة، والأدهش أنّ قيم المسيحية نفسها كانت تحوي داخلها هذا الفصل؛ برفعها شعار "اترك ما لقيصر لقيصر وما لله لله". فهو استعداد أصلي لتقبُّل الفصل بين الكنيسة والدولة. وقد ساعد على إنجاز هذه العقلنة للسياسة عوامل عدّة، أبرزها:
- "تنامي الفلسفة السياسية، بعد تمهيدات ميكيافيلي، في اتجاه تحرير الدولة من الشرعية الدينية.
- قيام الثورة الفرنسية الكبرى بعد معاهدة (وستفاليا)، والثورتين الإنكليزية والأميركية، بالانتصار لسيادة الشعب والدولة القومية ومبادئ الحرية والمساواة والإخاء، وإقامة التشريع في الدولة على أساس حقوق الإنسان المواطن."[13]
لقد أسهمت هذه العوامل في تأكيد رغبة الخروج من مصادر المشروعية الدينية المسيحية المستبدّة، والرُّكون إلى العقل كقدرة قصوى على تنظيم الحياة الإنسانية، وتحالف رؤى فلسفية ومشروعات فكرية من أجل بلوغ هذا المقصد؛ ذلك "أن الفلسفة السياسية الحديثة التي تبلورت على الخصوص في أعمال هوبز وسبينوزا ولوك ومنتسكيو وروسو أكّدت بصورة قاطعة قدرة العقل على النظر في طبيعة الحياة السياسية، والدول، وأنظمة الحكم وأشكالها من دون رجوع إلى الرؤية الدينية، للسلطة والتشريع. وترافقت أعمالها مع أعمال باهرة للعقل العلمي والعقل الفلسفي في ميادين النظر في الطبيعة وما بعد الطبيعة والرياضيات، تأكّدت بها قدرة العقل البشري على التحرُّك خارجاً عن اللاهوت."[14]
3. عقلنة التاريخ:
واضح -إذن- كيف أنّ التنكُّر للقداسة والثقة في العقلانية هما الملمح الجوهري لمشروع العقلنة في دوائر الاجتماع والسياسة، ورؤية العالَم. ولم تُستثنَ أيّة جهة أو عنصر من عناصر الثقافة من هذا الزحف العقلاني، ففي مجال التاريخ -مثلاً- حلّ التفسير العقلي محلَّ التفسيرات الغائية للحركة التاريخية، والإرادة الإلهية الكامنة خلف حركة التاريخ، خاصة ما أورده هيجل الذي طوّر تاريخاً للعقل كاتجاه ينتظم غِنَى الحوادث؛ بتقلُّبها وتنوُّعها واختلافاتها وكثافتها ولطافتها، ضمن ناظم منطقي يتيح لها الفرصة كي تتكلّم، وتجد لنفسها موقعاً ضمن هذه المخاطرة الكبرى، وتسلسل الأحداث، وتعاقُب العصور. ولا شكّ في أنّ مَنْ ينظر إلى التاريخ بنظّارات هيجل تبدو له الصورة عقلانية تماماً، أو يبدو تاريخ العالَم عملية عقلانية، وحضارته هي التنـزيل العملي لأزمنة تقدّم العقل والوعي. ومبتغى سعي الروح هذا هو تحقيق الكينونة المثالية، أو التطابق بين العقل والواقع.
4. عقلنة الدين:
فضلاً عن الدوائر التي رصدناها في هيمنة العقلانية عليها (أي عقلنة رؤية العالَم، والمجال الاجتماعي والسياسي)، فإنّ زحف هذه العقلانية قد وصل إلى ينبوع القداسة؛ أي الدين، ومركز القوة؛ أي ما كانت تناهضه الفلسفات ذات المنـزع الإنساني، الواثقة بقدرة العقل على الإحاطة بكلّ شيء؛ علماً، وتدبيراً.
إنّ فعل عقلنة الدين لا يروقه وجود العناصر الرمزية الغيبية التي تُشكِّل بُنى المقدّس، والإحالات الأخروية التي تَعِدُ بالأمان والسعادة في عالم آخر غير هذا العالَم الذي يحيا فيه الإنسان. لذا، فإنّ ثمّة اشتغال على حذف هذه الإحالات؛ لأنّ مقولات العقل لا تستجيب لها، ولا تعطيها أيّة معانٍ أو دلالات.
قد نشير في هذا المقال التحليلي إلى نموذج الدين الطبيعي؛ أي الدين الذي يقبله العقل، ويكون منـزوعاً من عناصره الغيبية والمقدّسات المتعالية. وتُعَدّ تجربة كانط نموذجاً حيّاً على هذه العقلنة للدين، "فكانط يعرّف الدين بأنه "معرفة واجباتنا كأوامر إلهية." ولذلك ليس هناك بالضبط سوى دين أصيل واحد لا يتضمن أصولاً للعقيدة ولا تعبُّداً، وإنّما قواعد أخلاقية وحسب، ويختلط بالدين الطبيعي الأخلاقي. إن الدين الحقيقي الوحيد لا يتضمن سوى قوانين، أي إرشادات عملية بحيث نستطيع بها أن نكون واعين لضرورتها غير المشروطة، وبالتالي لا يمكننا الاعتراف بها أنها موحى بها عن طريق العقل الصّرف."[15]
جليٌّ –إذن- كيف تحدَّدت منـزلة القداسة الدينية ضمن مشروع أخلاقي يخدم الإنسان ولا يتوجّه إلى الله، يتوجّه إلى مفهوم المواطنة المدنية وليس إلى العبودية الغيبية، يتوجّه إلى دين من دون وحي ولا عبادة ولا طقوس. وقد حدّد كانط تخوماً لهذا الدين الطبيعي، أو حدوداً قصوى لأيّ اعتقاد ديني: "الحماسة والخرافة والنّـزعة الإشراقية، والقول بالخوارق، وهي كلّها أشكال من الوهم الديني، ويقابلها: العقل ضد الخرافة والنقد ضد الحماسة، والحرية ضد الاستبداد الروحاني."[16]
وبذا، تستحيل العقلانية أو العقلنة قوة عليا أو آمراً كلّيّاً لا رادّ لأمره، يحاكم جميع الأنظمة الإيمانية والمعرفية والقيمية إلى مبادئه وقوانينه؛ إنّها تُركِّز على النّـزعة الإنسانية وبلوغها مرحلة الأوج، ولو أنّنا استخلصنا المبادئ الناظمة لهذه العقلانية المهيمنة لوجدناها تنحصر في مبدأ:
- التوجّه إلى الإنسان وحده، والانفصال عن الإله.
- الثقة في العقل وحده، والانفصال عن الوحي.
- التعلّق بالحياة الدنيا وحدها، والانفصال عن أيّ دلالة أخروية.[17]
تُلخِّص لنا هذه المبادئ الثلاثة المعايير الثاوية خلف إرادة العقلنة. ولكن، هل حقّقت هذه العقلنة مقاصدها (أي بلّغت الإنسان رشده الوجودي وفهمه لنظام الكون بمركباته جميعاً)؟ هل انتهى مشروع العقلانية حقيقةً إلى تحرير الإنسان والارتقاء به في أفق المعنى والقيمة؟
ثانياً: عقلانية الحداثة الغربية: نتائجها ومآلاتها
لا أحد يُنكِر المكاسب الإيجابية التي جنتها الحداثة العقلانية من هذه المبادئ والإنجازات، خاصة في مراحلها الأولى التي لم تسفر فيها عن الطابع العدمي والمآلات الانحطاطية التي كانت تلازمها؛ إذ إنّ إعادة الاعتبار إلى الإنسان كذات حرّة، واكتشاف دور العقل في فهم العالَم، والتخلُّص من هيمنة الذهنيات التي تتقنّع الدين وتتحالف مع قوى المال والسلطة، كلّ ذلك مكاسب محمودة ارتقت بأسبابها الإنسانية إلى تحقيق مستوى عالٍ من الضمانات الاجتماعية والوعي وإدارة الصلات الإنسانية إدارة عقلانية، إلاّ أنّ هذه المقاصد التي كانت تلوح في مراحل المشروع العقلاني الأولى لم تحافظ على نقاوتها ومقاصدها الأصلية التي نهضت من أجلها؛ ذلك أنّها لم تنتبه إلى المفاعيل العكسية التي كانت تعمل في الخفاء، وهي مفاعيل نُبصر فيها نحن أعراض مَرضٍ في مشروع الحداثة العقلانية، لا تكفي فيها المُسكّنات الوقتية، بقدر ما تحتاج إلى إعادة بناء النظرة الكلّية إلى العالَم، وما يتشعّب عنها من النظرة إلى المعرفة، والنظرة إلى القيم، والنظرة إلى الإنسان، والنظرة إلى الطبيعة.
إنّ النتائج والمآلات التي أفضت إليها الحداثة العقلانية، وهي بتعبير الفيلسوف الألماني نيتشه مآلات انحطاطية، يمكن لنا تجميعها في المناحي الآتية:
1. نـزع القداسة عن المعرفة واختزالها في تنمية دوافع القوة والهيمنة:
كان من نتائج هذه الذهنية العقلانية في تأويل العالَم، أن فصلَتْ –تدريجيّاً- القداسة عن المعرفة، وحوّلتها إلى معرفة علمانية خالية من نداوة الإيمان ورطوبة الروح. "وقد بدأت العملية قديماً في اليونان مع فقدان الروحية الرمزية وبروز العقلانية والتشكيكية وغيرها، ولئن احتفظت اليونان مع ذلك بإرث حكمي إلهي، فقد تم صرفه إثر الصراع الذي قام بين الهيلينية والمسيحية. ثم كانت القطيعة الكبرى مع المقدّس عندما أحال ديكارت الأنا الفردية إلى محور الواقع بعد فصلها عن الوحي وعن العقل، وهما مركز الثبات في الكون، وأخيراً استطاع هيجل بعدما مهّدت له شكوكية هيوم ولاأدرية كانط، أن يقوّض هذا المركز تماماً، مختزلاً الكينونة إلى صيرورة، والحقيقة إلى عملية زمنية، والعقائد الميتافيزيقية الجليلة إلى فكر دنيوي مقوّض ومفكّك."[18]
إنّ المعرفة التي كان من مقاصدها الاتصال بالوحي ومعرفة الله، ثمّ الاتصال بالعالَم والإنسان، جرى توجيهها نحو مقاصد أُخرى، هي: علمنة المعرفة، وتكثير الاستدلالات البُرهانية، والالتحام بالمعرفة الحسية. لقد تركّزت المعرفة في الأنا الواعي لذاته، الذي جعل وجهته الذات العارفة وموضوع المعرفة. أمّا الوحي والإله فقد جعل دورهما لاحقاً على دور الإنسان؛ ما أدّى ببعض المناحي الفكرية إلى الفصل بين الفلسفة والحكمة، والفارق بينهما أنّ الأولى حصرت جهدها في العالَم الحسي، في حين جدّدت الثانية الاتصال بالأفكار القريبة من التصوّف أو البصيرة النورانية، كالأفلاطونية أو الفيثاغورية. غير أنّ انتشار الرشدية والأرسطية أعاد القيمة إلى مشروع نـزع القداسة عن المعرفة؛ فنتيجة لأثر الأرسطية الشديد، جرى التأكيد مع (التوماوية) على القيمة الكبيرة للحس، والتوكُّؤ على المقولات الأرسطية في التعبير عن المسيحية، وقد أدت هذه العوامل دوراً مركزيّاً في استكمال مشروع العلمنة.
ومع مسارات الزمن في أفق الحداثة العقلانية، انبجست الهيجلية التي سمت بالعقل إلى مرتبة المطلق، واختزلت الحقيقة إلى عملية زمنية، والواقع إلى جدل منطقي دائم التحوُّل. وفي المقابل، فـ"إن خسارة معنى الدَّوام في المدارس الفلسفية أوصل بمعيّة وضعية أوغست كونت Auguste Comte إلى المرحلة المتقدّمة من علمنة المعرفة وأيضاً إلى خسارة معنى المقدّس، وهذا ما طبع الإنسان الحديث بطابعه، أما الفلسفات التي تلت، من قبيل اللاعقلانيات التي جاءت ردَّ فعل على الهيجلية أو الفلسفات الوضعية المختلفة أو الفلسفة التحليلية، فقد استكملت المراحل الأخيرة من برنامج التدمير التام لكلّ ما هو مقدّس في المعرفة، إما بفصله تماماً عن الدين والسعي وراء المقدّس من خلال العقلانية والمنطق، وإمّا باستنـزاف اللغة والعمليات الفكرية، وهي بالطبع مرتبطة باللغة، من كلّ ما هو ميتافيزيقي لا تنفصل المعرفة فيه عن السعي إلى المقدّس."[19]
وقد بلغت العلمنة ونـزع القداسة عن المعرفة قمّتها عند نيتشه (Nietzsche)، الفيلسوف الذي أبصر في إرادة المعرفة مجرّد إرادة قوى تُعبِّر عن نفسها فيها ومن خلالها. وإمعاناً منه في التقليل من قيمة إرادة المعرفة بإرجاعها إلى أصولها الحيوية وصيغتها التأويلية للعالم، المندرجة في إطار الصيرورة، يقول ساخراً: "ما المعرفة في التحليل الأخير؟ إنها تأويل؛ استثمار لمعنى، فهي في أغلب الحالات لا تفسر؛ إنّها تأويل جديد لتأويل قديم أضحى غير صالح ولا منتفع به، ولم يعد سوى مجرد علامة، لا توجد هناك حالة واقعية، كلّ شيء في سيلان، يستحيل المَسْكُ به، والأكثر دواماً هي آراؤنا،"[20] وكأنّ الصيرورة هي الثابت الوحيد في وسط عالم لا يعتدّ بالنظريات الكبرى والتأويلات الشاملة، وهذه خطوة حاسمة خلع فيها النسبية والسيولة المعرفية على الحقيقة الموضوعية والذات المُدركة. وبهذا، فإنّ ما في المعرفة أو الحقيقة وما يُختزَن داخلهما هو منظور وحسب، لا يتماثل مع الواقع أو يقترب منه، إنّما هو علامة أو أثر على إرادة القوة التي تنجح في فرضه، والنجاح في فرضه يعني أنّه حقيقي. فالمعرفة وَفقاً للتأويل النيتشوي لا تسكنها الماهيات والجواهر، ولا تُحرِّكها المبادئ والغايات، فضلاً عن الأشياء التي لا معاني لها في ذاتها؛ فالمعاني والدلالات تفرضها إرادة القوة بما هي منظور مخصوص وأثر لرغبات الكائن الإنساني. كما أنّ "منهج الحقيقة لم يبتكر لبواعث الحقيقة، لكن من أجل دوافع القوة والهيمنة."[21]
وبذا، أنجز نيتشه أخطر الخطوات بشطبه كلّ إحالات المعرفة نحو عالم آخر غير العالَم الأرضي، وسعيه من خلال تقليبه أنظمة المعرفة التاريخية إلى الكشف عن رهاناتها المصلحية والعوامل الحيوية المُنتجة لها. وفي المقابل، فقد دعا إلى المطابقة بين الحياة والصيروة، حيث تستحيل المعرفة وهماً في يد إرادة إحدى القوى أو أحد آثارها.
2. هيمنة العقل الأداتي واستعماره عالم الحياة:
تُمثِّل مدرسة فرانكفورت أحد أهم الاتجاهات الفلسفية التي أبانت عن لاعقلانية العقل، الذي اصطلحت على تسميته بـ"العقل الأداتي"، أو "الإجرائي"، أو "الحسابي"، وهو عقل لا يهتم كثيراً بالغايات والقيم، وتنحصر دائرة اهتمامه في التحسيب والإجراء؛ إنّه عقل كمّي آلي، لذلك جرى وصفه بالعقل القمعي. وقد عملت هذه المدرسة على تزويد العقل بالبُعْد الفني والأسطوري لكي يتحرر من إرادة السيطرة. إنّ هذا العقل الذي تعارضه مدرسة فرانكفورت وتناهضه، نال من الاهتمام ما رفع من شأن قيمته إلى رتبة عليا، وهو العقل الذي "سيتصدى بالنقد إلى الأساطير والأديان في صورة ربما جاز لي أن انعتها بالقاصرة لأنها قصّرت عن رؤية المحتوى الإنساني في الأساطير وفي الدين. ويمكن القول إن هذا العقل قد أنشأ نظرياته -خاصة النظريات العلمية منها- وبنى فكرة أن العالَم قابل للإدراك كلياً عن طريق العقل لأن الإنسانية يقودها العقل. وإذ هذا العقل المتحكّم في كل شيء قد صار كأنّما توجّهه العناية الإلهية أو كأنّما تحكمه أسطورة أشبه بالدينية."[22]
وبذا، فإنّ نقد ثقافة العقل القمعية، والإبانة عن دوافع الهيمنة المستبطنة خلف الأنساق المعرفية "العلمية لدى أعضاء المدرسة؛ يُمثِّلان مقدمة معرفية نقدية يتم التوجّه بها بخاصة لدى "هربرت ماركيوز ((Herbert Marcuse (1898-1989) نحو جبهة أخرى، هي مناهضة الأنظمة الاجتماعية القائمة، أو التحوّل من العقل النظري إلى الممارسة الاجتماعية. وقد حدّد ماركيوز مقصداً دالاًّ في أثناء مساءلته لما يسميه "العقلانية التكنولوجية"، هدف إلى إقامة البرهان على الطابع الداخلي الأداتي النـزعة لهذه العقلانية، ذلك الطابع الذي يجعل منها قبليّاً، وعلى نحوٍ مسبق تكنولوجيّاً، وبالتالي إقامة البرهان على قبلية التكنولوجيا بوصفها شكلاً من أشكال الرقابة والسيطرة الاجتماعية."[23] فالتقنية، وهي أوج الفكر العلمي، سيطرت على الطبيعة وعلى الإنسان، سيطرة منهجية تتوسّل التحسيب والتجريب. وقد رفض ماركيوز الفصل بين مجالات المنهج العلمي ودوائر الاشتغال السياسي؛ لأنّ القبلية التكنولوجية التي أشار إليها ما هي إلاّ قبلية سياسية، من مصلحتها المنافحة عن "الوجود الموضوعي للأشياء"، بغية تبرير وجود المؤسسات القائمة، وإعادة إنتاج النظام القائم، ومضاعفة الإنتاجية تحت أقنعة الفكر العلمي. وتبعاً لهذا، فالصلة وثيقة بين هذا الفكر العلمي وعالم التفاعل الاجتماعي؛ إذ إنّهما يخضعان لمنطق واحد وعقلانية واحدة، إنّه منطق السيطرة وعقلانيتها.
ويماثل ماركيوز بين العقلانية التكنولوجية وأدوات الضبط السياسي وفقدان الحرية في عالم اليوم، بقوله: "إنّ التكنولوجيا المعاصرة تضفي صيغة عقلانية على ما يعانيه الإنسان من نقص في الحرية، وتقيم البرهان على أنه يستحيل "تقنياً" أن يكون الإنسان سيّد نفسه وأن يختار أسلوب حياته. وبالفعل، إن نقص الحرية لا يطرح نفسه اليوم على أنه واقعة لاعقلانية أو واقعة ذات صبغة سياسية، وإنما يعبّر بالأحرى عن واقع أن الإنسان بات خاضعاً لجهاز تقني يزيد من رغد الحياة ورفاهيتها كما يزيد من إنتاجية العمل. إن العقلانية التكنولوجية لا تضع شرعية السيطرة موضع اتهام، وإنما هي تحميها بالأحرى؛"[24] أي إنّ التقنية والفكر العلمي الناهم بالفعالية العقلية يساوي جوهراً آخر هو جوهر العبودية المستديمة. وبعبارة أُخرى، فإنّ هذا جوهر التقني ألغى تجربة التأمّل المنسية، وألغى إمكانية إعادة بناء العقلانية بناءً نقديّاً. ومع أنّ النقد الذي طال العقلانية التكنولوجية يجد منابته لدى هيدجر، الذي ناقش مشكلة هذا التصور التجاري للتقنية، وسمّاه بالتصور الأداتي والأنثربولوجي للتقنية،[25] فخلَّف ما يبدو عقلانيّاً وموضوعيّاً ومحايداً، إلاّ أنّ ثمّة إرادة قوة كامنة تريد أن تُؤوِّل العالَم وَفق منظورها؛ تلبية لدوافع وحاجات معيّنة.
3. متتالية العلمانية والرؤية العلمانية للوجود والتاريخ:
كان من نتائج سلوك منهج العقلانية تنامي العلمنة التي أضحت لازمة من لوازم الحداثة الغربية، هذه العلمنة التي لم تتمكّن المسيحية من التصدي لها، بسبب نفوذها في مجالات الفكر والحياة برمّتها، ونـزوع أغلب الفلاسفة –وفي مقدّمتهم ديكارت- إلى الثقة بالوعي، ونظرة الإنسان المركزية إلى الكون، وانكفاء المسيحية على استكمال تأويل النصوص التي -بسبب كثرتها- أفقدت النص الأصلي قيمته وقداسته.
إنّ هذه العلمنة التي أفرزتها العقلانية لا تتعلّق بجوانب الحياة العامة فحسب، بل امتدّت إلى دوائر الحياة الخاصة وأمكنة القداسة بصورة خاصة. فمفاهيم العلمانية الأولى كانت تحيل إلى فصل الدين عن الدولة. أمّا الشؤون الأُخرى الخاصة، كالأسرة وصلات التراحم وأمكنة العبادة، فلا شأن للعلمانية بها. ولكنّ التحليل التاريخي يفيد بأنّ لهذا المفهوم ظروفه الخاصة فيما يتعلق ببنية الدولة آنذاك.
ذلك أنّ الدولة لها "مضمون تاريخي وحضاري محدد، فهي تعني بالدرجة الأولى المؤسسات والإجراءات السياسية والاقتصادية المباشرة. كما أن الدولة في القرن التاسع عشر حين وُضِعَ التعريف، كانت دولة صغيرة وكياناً ضعيفاً، لا يتبعها جهاز أمني وتربوي وإعلامي ضخم (كما هو الحالالآن)، ولا يمكنها الوصول إلى المواطن في أي مكان وزمان. وكانت كثير من مجالات الحياة لا تزال خارج سيطرة الدولة، فكانت تديرها الجماعات المحلية المختلفة، منطلقة من منظوماتها الدينية والأخلاقية المختلفة. فالنظام التعليمي على سبيل المثال لم يكن بعد خاضعاً للدولة، كما أن ما أسميه "قطاع اللذة" (السينما – وكالات السياحة – أشكال الترفيه المختلفة مثل التليفزيون) لم يكن قد ظهر بعد. والإعلام لم يكن يتمتع بالسطوة والهيمنة التي يتمتع بهما في الوقت الحاضر."[26]
وبالفعل، فحركة العلمنة -إذا استقصينا التعريفات التي أشرنا إليها في الفكرة السابقة- امتدّت إلى رؤية العالَم والقيم. فالعلمنة لا تقتصر على الجوانب السياسية والاجتماعية للحياة فحسب، ولكنها تشمل أيضا وبالضرورة الجوانب الثقافية؛ إذ تعني "زوال وظيفة الدين في تحديد رموز التوحيد والاندماج الثقافي للمجتمع،" وهي تعني "أن هناك مساراً تاريخياً لا رادّ له تقريباً هو الذي يتحرر بمقتضاه المجتمع والثقافة من الخضوع لوصاية الدين والأنساق الميتافيزيقية المغلقة. والعلمنة تطور "تحرري" وثمرتها النهائية هي النسبية التاريخية، وهكذا فإن التاريخ بالنسبة إلى العلمانيين عبارة عن سيرورة لتحقق العلمنة. إن العناصر المكونة للعلمنة تتمثّل في عدم الانبهار بالطبيعة وتحرير السياسة من الدين ونـزع القداسة عن القيم."[27]
وبهذا، فقد جُرِّد الدين والمرجعيات المفارقة من أيّ سلطة لصوغ رؤى تفسيرية للعالم، أو إمداد المُنظّرين بأسس تتعلق بآليات إدارة الشؤون الاجتماعية والاقتصادية. والفكر الغربي بتبنّيه هذا التأويل العلماني للعالم، وقع في دوّامة التأويل اللامتناهي للأشياء، والالتحام بالأرض والصيرورة، وهذا ما اصطلح الدكتور عبد الوهاب المسيري على تسميته بـ"العلمانية الشاملة"، التي برأيه هي "إيديولوجية كاسحة، لا يوجد فيها مجال للإنسان أو القيم،... وهي فصل القيم والغايات الدينية والأخلاقية والإنسانية عن الدولة، وعن مرجعيتها النهائية، وعن حياة الإنسان العامة والخاصة، وتطبيق القانون الطبيعي، المادي على كل مناحي الحياة، وتصفية أي ثنائية، بحيث يتم تسوية كل الظواهر الإنسانية بالظواهر الطبيعية، فتنـزع القداسة تماماً عن العالَم، ويتحوّل إلى مادة استعمالية."[28]
يتبين ممّا سبق أنّ العلمنة عملت على تحويل العالَم إلى مادة استعمالية وسوق رائج للتجارة بغرائز البشر، ويجد هذا المعنى دلالته في التنكُّر للقداسة، وتهميش (أو إلغاء) الوحي بوصفه مصدراً من مصادر المعرفة، والمفاضلة بين مصادر المعرفة وتقسيمها إلى حقائق متعارضة ومتنافرة؛ ما أدى إلى تدمير الحقيقة كأفق ورجاء قد لا نبلغه في عالمنا الذي نعيش، وهذا ما يذهب إليه بول ريكور.
مجمل القول، إنّ العقلانية التي جلبتها الحداثة الغربية إلى العالَم، هي مآلات لا ترتقي -بنظرنا- بالإنسان إلى المقاصد الكبرى التي تليق به؛ أي الارتقاء به إلى المراقي الروحية والنفسية والمعرفية والعمرانية التي تكوّن الصورة التركيبية المتكاملة؛ ذلك أنّها ألغت عامل القداسة من حياة الإنسان. علماً بأنّ المقدّس هو "مصدر كل فاعلية... [إنّه] يتمتع بقدرة جذب سحرية. قمة الإغراء هو، وأقصى درجات الخطر؛ مرغوب يستحث الراغب على الجرأة والإقدام، ومرهوب يهيب بمن يُحاذيه إلى الرويّة والحذر... إن المقدس يشكّل طاقة خطيرة... شديدة الفاعلية."[29]
ولكن، وعلى الرغم من تجربة نموذج العقلانية الغربية، ونتيجة للثقة المفرطة بهذه العقلانية وبمبادئها؛ فقد تعذّر عليها إدراك كيفية توظيف المقدّس، أو الالتحام بطاقته، ما أدى إلى تآكُل هذا النموذج العقلاني، وفقدان بريقه الأدبي، وتَشكُّل مناحٍ فلسفية احتجاجية ترفض هذا التأويل العقلاني للعالم، وتُناهِض اختزاله في صورته المرئية؛ إنّها كما سمّاها الأستاذ طه عبد الرحمن عقلانية مجرّدة، وهي بوجه خاص "عبارة عن خاصية الفعل الإنساني الذي يقوم في السعي إلى تحقيق مقاصد لا يقين في نفعها بوسائل لا يقين في نجوعها... إنها تخل بشرط النفع في المقاصد لوقوعها في النسبية والفوضوية والاسترقاق، كما تخل بشرط النجوع في الوسائل لإقصائها المعاني الروحية واكتفائها بالظواهر الخارجية واعتمادها للوسائط المادية وحدها."[30]
من هنا، فإنّ المسلك الآمن لاجتراح أفق حداثي جديد لا يحاكي هذه التجربة الغربية، هو وجوب النظر فيها من زاويتين اثنتين: زاوية تلتزم مبدأ المسافة معها ومع منجزاتها الحضارية، وزاوية تفكر في شق طرائق أُخرى لا تتعارض مع القداسة، ولا تركن إلى العلمنة، وتعيد بناء مفهوم جديد للعقل والعقلانية، يتنـزّل العقل بمقتضى هذا البناء في مكانه الحقيقي، وتُعطى تبعاً لهذا دلالات أُخرى لمفهوم رؤية العالَم، وقيمة المعرفة والحقيقة، وجميع المفاهيم المتشعبة عنها.
ثالثاً: من حدود عقلانية الحداثة الغربية إلى العقلانية التوحيدية: في التأسيس لحداثة إسلامية بديلة
قد يستشكل المتلقي هذا المرور عبر مساءلة قيمة العقلانية الحداثية، في حين كان من الأسلم -منهجيّاً- الولوج مباشرة إلى رهاننا الذي أعلنّا عنه، ويحمل عنوان "التأسيس الإيماني للعقل". وهذا القلق أو الاستشكال مشروع لو كانت الحضارة الإسلامية قائمة اليوم، وتعيش في عالم منفصل عن غيرها من الحضارات الأُخرى، وتُفكِّر نخبتها من مرجعياتها الحضارية، وبما تحتويه من رؤية إلى الوجود، ورؤية إلى المعرفة، ورؤية إلى نظام القيم، وفُعِّلت هذه المنطلقات التأسيسية تفعيلاً حضاريّاً في عناصر الثقافة برمّتها (القانون، الأخلاق، السياسية، الفن، العمارة).
أما وأنّ الأمة الإسلامية تعوزها هذه المواصفات، التي ترفعها إلى مرتبة التأهيل الحضاري، فإنّ المرور عبر مساءلة قيمة العقلانية الحداثية الغربية من أجل الارتكاز على الرؤية الإيمانية في صوغ مرجعية العقل يجد مُبرِّراته -فضلاً عمّا ورد في مقدّمة هذه المقالة البحثية- فيما يأتي:
- "إن المعرفة التي يتم الآن نشرها في العالَم بصورة منهجية منظمة ليست بالضرورة معرفة حقيقية وصحيحة، ولكنها معرفة مصطبغة بخصائص ثقافة الغرب وحضارته، ومُشربة بروحها، ومكيّفة وفق غاياتها، وإذن فهذه العناصر هي التي يجب تشخيصها، وفرزها ثم فصلها وعزلها عن هيكل المعرفة ومادتها بحيث تميز المعرفة ممّا أُشرب بتلك العناصر."[31]
- إنّ النموذج الحضاري العقلاني الغربي لم يحافظ على بريقه الأولي الذي انبجس به؛ لأنّ ثمّة دعوات وأصوات ارتفعت "من داخل الحضارة الغربية، وهم أهلها والعارفون بأسرارها وخباياها، تدعو إلى تصفية النموذج الغربي من سيادة العقل والعلم الذي تحكمه قوانين المادة والتجريب الإمبريقي، ومن سيادة القيم المادية المسيطرة عليه، قيم السوق ورأس المال؛ والتفتت والتشرذم والتراجع المهول للقيم الروحية مما أوصل الحضارة الغربية إلى أزمة؛ أكاد أقول إنها أزمة ذاتية شعورية."[32]

-   إنّ المتلقي للنموذج الحداثي العقلاني الغربي، خاصة إذا كان من نخبة الأمة الإسلامية،لم ينضبط بقانون المسافة في مسألة الأخذ عن الغير والاستفادة منه، ففرّق بين الاستعارة من الغير في حالة ثبوت فائدته الإجرائية وقيمته التوجيهية، وتقديس هذا النموذج العقلاني الغربي أو هذا الغير، ولا يستوجب هذا الفهم الرفض النُّكوصي للحداثة الغربية، كلاّ؛ إذ "لا يمكن لعاقل في عالمنا المعاصر أن يقول بهذا أو يقبله حلا حتى ولو كان ممكنا، فما خُلِقَ الإنسان والثقافات والحضارات إلا للتعارف والتفاعل والتدافع والحوار، ولم يخلقوا للعيش أشتاتا، أو للتنافر والانعزال، فذلك من شأنه أن يعرض الإنسان والثقافات للتصدع والاندثار."[33] لكنّ لسان حال النخبة والفئة المتنفّذة في دوائر صنع قرارات الأمة المسلمة، يُؤكِّد استهلاكها منتجات هذا الغير من دون تطوير نموذج منهجي تركيبي لكيفية الاستفادة من الإنتاجية الفكرية الغربية؛ إنّها تستهلك منها –بالجملة، والتقسيط- ما هو صالح للاستعمال، وما انتهت صلاحية استعماله، كالاتجاهات البنيوية والماركسية والوجودية والنيتشوية، التي تدعو إلى فلسفة العبث، والتأويل المأساوي للوجود، والعيش وَفق دورة العود الأبدي اللاغية للمعنى والمقاصد.
أضف إلى ذلك أنّ النقد الذي تشكّل في الفكر العربي لمشروع الحداثة الغربية -في أحد تجلّياته- لم يكن ينطلق من قوة استيعابية ونقدية لهذا المشروع، أو مكاشفة معرفية لفهم حقيقة مبادئها ومآلات نتائجها، بقدر ما كان نقداً محايثاً أوملازماً للحظة تَعرُّف الوعي العربي هذه الحداثةَ الغربية، وهي لحظة على الرغم من كراهيتها، إلاّ أنّها شكَّلت وعياً مخصوصاً واستنتاجاً لدى شريحة واسعة من المثقفين العرب. وهذه اللحظة هي الزحف السياسي والعسكري الأوروبي الممتد من غزوة بونابرت لمصر إلى انهيار الإمبراطورية العثمانية وميلاد تركيا الحديثة. أمّا الاستنتاج الذي تكوّن لدى هذه الفئة "فيقضي بالشك في أصالة ميلاد تلك الفكرة، وفي شرعيتها التاريخية أو الوجودية. بحسبانها ولدت بعملية قيصرية من خارج، ولم تنشأ في سياق ثورة ثقافية ذاتية في جوف المعرفة العربية الإسلامية الموروثة. ولم يكن دمغها بتهمة الهجانة والاستيراد مما أنـزلته بها قراءات أصالية سلفية أو سلفية جديدة، وإنّما شاركتها فيه قراءات أخرى تنتسب إلى المنظومة الثقافية للحداثة نفسها."[34]
وبهذا تتضافر هذه العوامل من أجل تأكيد المرور على المساءلة النقدية لمشروع الحداثة العقلانية، لننعطف بعدها لرسم الصورة التي ينبغي أن تسلكها الحداثة الإسلامية المتصلة. والاتصال المقصود في هذا المقام هو بخلاف الانفصال الذي وقعت فيه عقلانية الغرب؛ إنّه اتصال متعدّد الاتجاهات: "الاتصال بين الرؤية التوحيدية للوجود وأنماط الحياة"، و"الاتصال بين العقل والقلب"، و"الاتصال بين العقل والخُلقِ"، و"الاتصال بين العقل والشرع"، و"الاتصال بين العقل والوحي"، و"الاتصال بين العقل والإيمان". وهذه الاتصالات هي أقوى الرهانات بخصوص إنجاز حداثة إسلامية تختلف عن تلك الغربية ذات المسلك الانفصالي والانشطاري لهذه المكونات الصميمية المُكوّنة لسَيْرورة الحياة سيرورة متكاملة ومتوازنة.
رابعًا: العقلانية الإسلامية ومرتكزات الحداثة المتصلة
1. تظافر العقل والإيمان من أجل ترشيد مسيرة الإنسان:
لـمّا كان من مقاصد الحداثة الارتقاءُ بالإنسان في مستوياته الروحية والمعرفية والعمرانية، متوسّلة في سبيل هذه المهمة بالعقلانية المنفصلة وحدها، وكانت مآلاتها بخلاف هذه التطلّعات كما رأينا، فإنّ الحداثة الإسلامية لا تتقاطع مع هذه المنظورات التي اتخذت من العلمنة الكلّية أداة مركزية لها، وجلبت الفوضى والاضطراب للإنسان بدلاً من أن تكون سبب أمن وسلام وعدل له.
فقد جرى التنكُّر للإيمان بنسق الحداثة العقلانية الغربية، والاحتفاء بالعقل وحده تحت وابل من المسوّغات التي أوردناها في ما مضى. وفي المقابل، فقد زادت العقلانية الإسلامية من قيمة التعقُّلية بوصفها قناة معرفة مُؤثِّرة لمعرفة حقائق التوحيد؛ إذ من غير العقل لا تُعرَف حقيقة الشرع، "ولذلك كان المطلب الإلهي الأول، والواجب الإلهي الأول هو "المعرفة"؛ معرفة الله ومعرفة الإنسان نفسه وعلاقاته المتنوعة، وهذه المعرفة منطلقها الأساس هو "النظر العقلي"، وبذلك كان "النظر العقلي" المطلب الإلهي الأول من الإنسان؛ إذ بدونه لا يمكن بناء أي مطلب آخر."[35] وبعبارة أُخرى، فإنّ العقل يوصِل إلى الإيمان بالتوحيد، لكنّه لا يقطع في أمور الغيب؛ لأنّها ليست من اختصاصه. وأمور الغيب مصدرها الغيب لا العقل، وهذا لا يعني انتهاء دور العقل وتوقيف نشاطه، إنّما "يفترض أن يحدث العكس، فإذا كان "النظر العقلي" قد قاد خطى الإنسان إلى معرفة الله واهتدى بذلك إلى التوحيد، فذلك يعني أن قدرات هذا العقل، وقد أضيف إليها الإيمان بكل الطاقات التي يفجّرها في الإنسان، سيكونان معاً قادرين على "الجمع بين القراءتين"، ومعالجة كل ما يعترض سبيل الإنسان في هذه الحياة، أو يحول بينه وبين تحقيق أهدافه في التزكية والعمران، بعد أن هيّأ الله سبحانه وتعالى له سبيل بلوغ التوحيد والوصول إليه."[36]
هذا من منحى، ومن منحى تحليلي آخر، فإنّ موضوع "الإيمان بالله ليس أمراً من أمور العقل الإنساني وحسب، بل هو المعنى الواقعي والحي للإنسان، بعقله وجسده، وبعقله وغرائزه، وبموقعه في سياق الحالة الإنسانية والتاريخ الإنساني، وبتعلُّقه بالتقاليد والمرجعيات وأعراف التفكير، وموازين القيم، وبمصالحه والتزاماته الاجتماعية. فالإنسان لا يستطيع التحدث عن ذلك (الشيء). ولذا فالدين أمرٌ فوق طبيعي، لأنه لا برهان منطقي على حقيقة الحقيقة، ولا على حقيقة الله. فلا برهان على حقيقة الذات الإلهية هو أَولى من الحبّ. فالعلاقة بالله علاقة ثقة. بيد أنّ الإيمان ليس أمراً غير عقلاني. وهناك تأمُّليةٌ في حقيقة الله ناتجة عن التجربة الإنسانية، والدعوة إلى حرية قرار الإنسان. وهكذا فالإيمان بالله يمكن تسويغُهُ في وجه النقد العقلاني. ذلك أنّ جذره مستقرٌّ في التجربة الإنسانية ذاتها، والتي تطرحُ أول الأسئلة وآخرها بشأن سياق إمكانها. فالإيمان ليس قراراً أعمى، خالياً من الواقعية؛ بل هو أمرٌ مؤسَّسٌ في الواقع وعليه، وهو مسوَّغٌ في الحياة العملية. وتأتي أهميتُهُ للحاجات الوجودية وللأوضاع الاجتماعية، وتُصبحُ ظاهرةً من خلال حقيقة العالَم والإنسان. يتجلّى الإيمان في العلاقة الواقعية بزملائنا البشر، والتي تبدو بمثابة الشرط الضروري لتقبل الله لنا."[37]
إنّ مشكلة العقل الحداثي تتمثّل في وقوفه على الدلالات المحسوسة والظواهر المرئية، وعدم النفاذ إلى لبابها. ولو كان هذا العقل مخلصاً لفطرته وتكوينه الأصلي لما انتهى إلى عقلانية مجرّدة من البُعْد الإيماني؛ عقلانية مُكتفية بذاتها، وغير قادرة، بل لا تريد أن تتفاعل مع غيرها من مصادر المعرفة التي ليست من جنسها.
2. وحدة التفسير والقيمة أو الآية والمعنى في قراءة الطبيعة:
يمكن إجمال أهداف حركة العلمنة التي تحقّقت فعليّاً في ثلاثة مستويات، هي:
- نـزع القداسة عن الطبيعة، حيث لا مكان فيها للأثر الإلهي.
- نـزع القداسة عن التشريع السياسي، حيث لا منـزلة للدين في تدبير المجتمع.
- نـزع القداسة عن القيم، بإسكانها في تربة النسبية والثقافية.
ومدار كلامنا في هذا العنصر، هو النّـزع الأول الذي استحالت الطبيعة بموجبه إلى مكان للسلب والنهب وإفراغ الكون من قيمته الدينية. فالطبيعة كتلة صمّاء يخوض الإنسان ضدّها صراعاً أبديّاً للسيطرة عليها، والتمتع الزائد بخيراتها وأنّى له ذلك؛ فقد جرّد الإنسان الغربي الطبيعة من أسرارها ومقاصدها الروحية؛ بإنـزال المناهج العلمية عليها وتكميمها، وحصر قيمتها في التحكّم التقني للإنسان، وتحدّدت وجهة الإنسان الذي أضحى مركزًا هنا، تحدّدت نحو البُعْد المادي والشعور الوهمي بألوهيةٍ تستمد قيمتها من قدرات عقلية أضحت تبحث عن منشئه ومصيره.
لقد نمت دلائل عديدة "تشير إلى اختلال التوازن البيئي، مثل تدمير البيئة الطبيعية، واستهلاك مصادر البيئة المحدودة، والتوسع الخطير لأنماط الحياة العمرانية، تلك الدلائل لم تكن محل اعتراض لعقود مضت باعتبارها تكلفة حتمية للتقدم الاقتصادي والتطور المادي. ولكن ما إن جاءت حقبة الثمانينات حتى أعلنت الطبيعة عصيانها إزاء تلك الانتهاكات التي أدت إلى تفككها، فقضية ثقب الأوزون، والتغيرات المناخية... وخطر الإشعاعات المتزايد، كل ذلك أثبت أن عملية سيطرة الإنسان على البيئة بهدف توسيع دائرة أمنه وحريته أصبحت في الحقيقة تتهدّد حتى بقاء الإنسان على قيد الحياة، وهذا البقاء هو من الأهمية بحيث يشكل الشرط الأساسي لاستتباب الأمن الوجودي."[38]
وتأسيساً على ذلك، فإنّ النفسية الاستحواذية عند الإنسان الغربي (جرّاء استناده إلى النموذج العقلاني) هي سبب الأزمة البيئية، وإزالة الفهم الآياتي للطبيعة، وهذا مخالف أشد المخالفة للنظرة الإسلامية حيال الطبيعة. "فالقرآن يؤكّد بوضوح لا لبس فيه أن الطبيعة كلها كتاب كبير مفتوح قابل للفهم والتفسير، وهو كذلك يخبرنا بأن أصحاب العقول والبصيرة والفهم والتمييز والمعرفة يدركون المعاني التي ينطوي عليها كتاب الطبيعة، ذلك أن الطبيعة كتاب يحدثنا عن الخالق، وهي تخاطب الإنسان بوصفها وحيا من الله... إن الطبيعة ذات مغزى كوني، وهي تستوجب احترامها وتقديرها لأجل صلتها الرمزية بالله عز شأنه. أما الإنسان فهو حسب القرآن الكريم خليفة الله تعالى الذي أورثه مملكة الطبيعة."[39]
إنّ الاسلام هو دين لا ينحصر في العالَم الداخلي كما هو الحال في الديانة البوذية والبرهمية والمسيحية، ولا يبصر في الجسد كدورة وجب التخلُّص منها باقتلاع الشهوات والزهد في العالَم، الأمر الذي زاد -فيما يبدو- من عملية العلمنة وسرعة نفوذها في دوائر الحضارة الغربية. فزهد المسيحية في الطبيعة والاكتفاء بتأمُّلها أورث النظر التأمُّلي الذي لا يتفاعل معها تفاعلاً حيويّاً، في حين وجّه الإسلام العقل إلى العالَم الخارجي، وهذا أمر غير مألوف في الأديان. إنّ هذا التآخي بين الملاحظة والتأمُّل الإسلامي هو تآخٍ بين عالمين يجدان أصلهما في توحيد الله سبحانه وتعالى؛ أي وحدة الأصل، والآيات القرآنية التي تُصوِّر الظواهر الطبيعية تتداخل فيها أيضاً الملاحظة الهدفية والقاصدة بالشوق والإعجاب الديني. وحين نتجه إلى الطبيعة "نجد فيها تقبلاً كاملاً للعالم، ولا أثر فيها لأي نوع من الصراع مع الطبيعة. فالإسلام يُبرز ما في المادة من جمال ونبل كما هو الحال بالنسبة للجسم في موقف الصلاة، والممتلكات في الزكاة. إن العالَم المادي ليس مملكة للشيطان، وليس الجسم مستودعا للخطيئة. حتى عالم الآخرة وهو غاية آمال الإنسان وأعظمها، صوّره القرآن مغموساً بألوان هذا العالَم. ويرى المسيحيون في هذا حسية تتنافى مع عقيدتهم، ولكن الإسلام لا يرى العالَم المادي مستغرباً في إطاره الروحي."[40]
إنّ هذا التوجُّه الذي يطبع الإسلام نحو العالَم الخارجي، هو تأكيد على وحدة العالَميْنِ، وهذا لأنّهما من مصدر واحد، هو التوحيد كمبدأ ومنتهى، وجميع الثنائيات التي تُصوِّر الطبيعة بنظرة استحواذية أو بصورة تدنيسية لا تنسجم والرؤية الثنائية التكاملية التي يُقدِّمها الإسلام.
ويقترح "طه عبد الرحمن" ثنائية مصطلحية استخرجها من القرآن الكريم، للتمييز بين الظاهرة ودلائلها الرمزية، هي ثنائية "النظر الملكي"، الذي يعني ملاحظة الظواهر؛ توصيفاً وتجريباً وتقنيناً، و"النظر الملكوتي" الذي يتعدّى هذه الخطوة المتصلة بفهم الظواهر الخارجي ليتغلغل في أعماقها، كاشفاً عن القيم الكامنة خلفها، والمعاني التي لا يُدرِكها صاحب العقل التجريبي، والمثال الذي نسوقه للتمثيل على هذه الثنائية، هو مثال "نـزول المطر". فمعلوم أنّ المطر ظاهرة مركبة من أوصاف تتتالى بعلاقات موضوعية، هي: تبخُّر الماء، ثمّ تكاثُفه بسبب البرودة، ثمّ استحالته إلى قطرات. هذه هي مرحلة "النظر الملكي"، لكنّها في المقام الآخر تُسمّى آية؛ أي الظاهرة منظوراً إليها من جهة الدلالة المعنوية القيمية التي تزدوج بأوصافها الخارجية، آخذة بالعقل إلى مستوى الإعجاب الديني، أو التأمُّل لمعرفة المآلات والمقاصد أو الحكمة من وجودها، حيث تحيل إلى "إعادة الحياة"، و"النعمة"، و"الرحمة". وبذا، فإنّ "للمسلم نظرين اثنين إلى الأشياء لا ينفك يزاوج بينهما: نظر أصلي يتدبّر به الأشياء، وهو "النظر الملكوتي" الذي يوصله إلى الإيمان؛ ونظر فرعي يتدبّر به الأشياء، وهو " النظر الملكي" الذي يوصله إلى العلم. يستفاد من هذا أن المسلم لا يفتأ يؤسس نظره الملكي على نظره الملكوتي، وبفضل هذا التأسيس، يجد الصلاح في الحال، فيحيا حياة لا ضنك فيها، كما يرجو الفَلاح في المآل، فيسعد سعادة لا شقاء معها."[41]
وبعبارة أُخرى، فثمّة وحدة بين النشاط العقلي في تجلّيه العلمي والدلائل القيمية التي تلازمه، والظاهر أنّ نفوذ علمنة الطبيعة اتسع (بسبب الانفصال بين الظاهرة والآية، أو التفسير والقيمة)؛ بتجريدها من مغزاها الروحي. أمّا المعين الآخر على هذا التجريد -فضلاً عن هيمنة التفسير العقلاني المنفصل- فهو "الديانة المسيحية"، والمناحي الفلسفية المتأثرة بنظرية أفلاطون في الوجود، التي فاضلت بين عالميْنِ مختلفيْنِ من حيث الطبيعة والقيمة (عالم المثال النقي الصافي الثابت، والعالَم الحسي الملطخ بالشهوات والتغير والصيرورة)؛ وذلك بسبب نظرة هاتين الرؤيتين السلبية تجاه الطبيعة بنوعيها: الطبيعة الخارجية الخاصة بالموجودات، وطبيعة الإنسان الداخلية. ولكن، ومع الرؤية الإسلامية فقد "تبلورت أكبر حقيقة حاسمة في تاريخ الأديان وفي تاريخ العقل الإنساني بصفة عامة، تميّزت بظهور دين العالَمين...، أو ظهور النظام الذي يحتضن الحياة الإنسانية بكل جوانبها. وتحقق الإنسان أنه ليس في حاجة إلى أن يرفض الدين من أجل العلم، أو يتخلّى عن الكدح في سبيل حياة أفضل من أجل الدين. إن الأهمية البالغة للإسلام تكمن في حقيقة أنه لم يغفل وجود المعاناة، وضرورة النضال ضد المعاناة وهذا هو المحك الحاسم في التاريخ الإنساني."[42]
لا شكّ في أنّ الطبيعة هي كتاب مفتوح، لكنّه ليس مفتوحاً للقراءة فحسب بلغة المثلثات والهندسات على ما يُؤوّل الفهم الرياضي البارد للعالم، بل مفتوحاً للقراءة بلغة الدلائل على الحضور الإلهي إلى جانب الإنسان، وعلى تذكُّر المهمة الكبرى وهي مشروع الخلافة الكونية، وعلى اشتقاق القيم أيضاً؛ لأنّ هذا كلّه يجد أصله في وحدة الصلة ووثاقتها بين الرؤية الوجودية والنظام القيمي، وإدراك الطبيعة والبيئة.
3. من تضاد الملكات الإدراكية الإنسانية إلى تكاملها:
تنبني العقلانية الإسلامية على تكاملية الملكات الإدراكية الإنسانية، لا على تضادها وتناحرها فيما يذهب إليه العقل الغربي الذي أورث أزواجاً من الثنائيات المنفصلة والمتضادة، كالفصل بين العقل والقلب، أو العقل والإيمان، أو العقل والشرع، وهذه الثنائيات هي ذات منشأ غربي محض، ونتيجة حتمية للمواجهة بين ما هو ديني وما هو فلسفي."لقد كانت نتيجة هذه المواجهة الدينية الفلسفية أن اتجه الفكر الديني المسيحي إلى تقليص وظيفة العقل وبالتالي تقليص معرفة الحقائق الروحية، وفي الوقت نفسه تشجيع الإيمان الأعمى بعقائد المسيحية عن طريق ترويض الإرادة الإنسانية لا باستخدام وظائف العقل والنظر، على أساس أن الأصل في الإيمان هو الحب."[43]
وقد تمظهرت هذه المتضادات -بين الملكات الإدراكية- في نشوء اتجاهات فلسفية لا ترى من الأنشطة العقلية إلاّ دورها النظري، ولا تتكلّم في البُعْد العملي أو تفصله عن النظري، فنشأت تلك الثنائية التي تفصل بين العقل النظري والعقل العملي، حاملةً المعنى الأول على الفعل الإدراكي الذي يتوسّل بناء الاستدلالات الصورية والأنساق المجرّدة، وحاملةً المعنى الثاني على التشريع لنظام القيم الخلقية التي يعمل بها الإنسان، وما أشدّ هذا مخالفة لقانون تكاملية الإنسان ووحدته!
وهذه النتائج تجد منابتها في: القول بجوهرية العقل واستقلاله مقابل البُعْد الفعلي الخاص بالخلق، واستقلال العقل العملي ووصفه أيضاً بوصف الجوهرية وجعله تابعاً للعقل النظري، و"تخصيص الإنسان بصفة العقل"، مع حمل لفظ "العقل" على معناه كما تحدّد في سياق التجربة الغربية العلمانية.
إلاّ أنّ النظرة الإسلامية لا تقيم هذه الصلة المتنافرة بين النظر والعمل، إنّما تنظر إليهما في وحدتها الأصلية. فالعلم مبدأ، والعمل تمام العلم، مع أنّ رفع قيمة البُعْد العملي مرتبة -أحياناً- يُحدِّد قيمة الفعل العقلي المجرّد، والأدهش "أن الحقيقة الإنسانية، أصلاً واحدة، وهي حقيقة عملية، بحيث يصح أن نضفي الصبغة العملية على كل فعل من أفعال الإنسان التي تقترن بالقصد والإرادة؛ والنظر هو أحد هذه الأفعال المقصودة أو المرادة، فيكون النظر هو عبارة عن عمل صريح حتى ولو لم نتوسّل فيه بالجوارح الظاهرة."[44]
ومن مظاهر الانفصال أيضاً التي تأباها العقلانية الإسلامية، إشكالية الفصل بين العقل والقلب؛ إذ خُصَّ العقل بالوظيفة المعرفية المحضة، وخُصَّ القلب بمكان المشاعر والانفعالات، وليست هذه المشكلة نتاجاً للعلمنة العقلانية الغربية فقط، إنّما مبثوثة كذلك في شِعَب المعرفة التراثية الإسلامية. فهذا الكندي يُعرِّف العقل بأنّه "جوهر بسيط مُدرك للأشياء بحقائقها"...[أمّا الفارابي] فإن فعل العقل عنده "العناية بالحيوان الناطق، والتماس تبليغه أقصى مراتب الكمال، الذي للإنسان أن يبلغه وهو السعادة القصوى؛ وذلك بأن يعبر الإنسان في مرتبة العقل الفعال، بأن يحْصُلَ مفارقاً للأجسام، غيرَ محتاج في قوامه إلى شيء آخر مما هو دونه من جسم أو مادة أو عرض."[45]
وهذه جميعها أعراض لنسيان المفهوم القرآني للقلب، يقابلها الركون إلى المفهوم اليوناني الذي يُمجِّد المفهوم الجوهري؛ أي المفهوم الذي يجعل من العقل جوهراً قائماً في الإنسان، وله الصدارة والسلطة على الملكات الأُخرى. علماً بأنّ العقل مخصوص هنا بالدلالة على المعرفة والتفسير الحسي والخارجي للظواهر، "والحقيقة أن القلب هو مصدر الإدراكات العقلية التي تتميّز بشدّة التقلُّب ومتانة الصّلة التي تربطها بكل قوى الإدراك التي يملكها الإنسان، بحيث يكون في سلامة القلب سلامة المعارف والمُدركات؛ كما أن القلب هو مصدر القيم الأخلاقية التي تنبني عليها الأحكام الشرعية، بحيث يكون في صلاحه صلاح الأعمال والتصرفات."[46] وبناءً على ذلك، فمن الأسلم -منهجيّاً- إعادة صوغ تعريف آخر للعقل لا يتعارض مع الدلالة القلبية، خاصة أنّ اشتقاقات اللسان تطالعنا بالخصيصة التقليبية للعقل متى كان مُسنداً إلى القلب، فيصبح العقل هو إدراك القلب للعلاقات القائمة بين الأشياء. يقول الإمام الماوردي في هذا السياق: "وكل من نفى أن يكون العقل جوهراً، أثبت محلّه في القلب؛ لأن القلب محلّ العلوم كلّها. قال الله تعالى: ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ   ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ  (الحج: 46). فدلّت هذه الآية على أمرين: أحدهما: أن العقل علم، والثاني: أن محلّه القلب. وفي قوله تعالى (يَعْقِلوُنَ بِهَا)، تأويلان: أحدهما: يعلمون بها، والثاني: يعتبرون بها."[47]
إنّ الدلالة الكبرى التي نستخلصها من هذا التحديد للعقل، بوصفه فعلاً من أفعال القلب وَفق التصور الإسلامي، هي "أن ما يعد "عقلياً" أو "عقلانياً" في الإسلام لا يقتصر فقط على التفسير المنطقي المنتظم الذي يقدمه العقل لمعطيات التجربة، أو إخضاع تلك المعطيات لقوانينه وحساباته، أو ما يقوم به من تجريد لتلك المعطيات وعلاقاتها، أو إدراكه لمغزى الطبيعة وصياغة قوانين تحكم حركتها وظواهرها المختلفة. وبما أن العقل عبارة عن تجلّي ملكة الإدراك والتعقُّل وفعاليتها، فإنه في الواقع يعمل في انسجام تام مع تلك الملكة التي مكمنها القلب، وهذا يعني أن إدراك الحقائق الروحية ومعرفتها يدخلان ضمن وظائف العقل، وليسا بالضرورة منقطعي الصّلة بما يعد فهما عقلانياً للأشياء."[48]
ولقد تأكّد لدى أعضاء مدرسة فرانكفورت في مشروعهم النقدي للعقل الأداتي، أنّ هذا العقل الذي جلبته الحداثة إلى العالَم خالٍ من رطوبة العاطفة ونداوة الرُّوح، فحشدت عُدّتها الفنية من أجل الفصل بين إرادة السيطرة على الواقع والعقل الذي يدرك موقعه ومنـزلته الفعلية؛ أي العقلانية الفنية، وهذا ملمح جوهري لفقدان الثقة في العقل الجاف، وضرورة البحث عن أسس أُخرى. ولو أنّهم اتجهوا إلى العمق الروحي للإنسان؛ أي الفطرة لأغناهم ذلك عن خوض تجربة أُخرى مع الفن الذي لن يُمكِّن من استعادة هذه الوحدة الضائعة (وحدة القلب والروح)، واستعادة الوحي الذي سيعِين العقل البشري ويُخلِّصه ممّا يعرض له في طريقه إلى الحقيقة من تشويش واضطراب؛ ذلك أنّ المراد الإلهي "من إنـزال علمه ليس أن نقف على قيمته النظرية ومبانيه الاستدلالية، وإنّما أن نتلقّاه باستعداداتنا وقدراتنا العملية، فنتحقّق به في سلوكنا، على اعتبار أنه هو وحده العلم الذي تصلح به أحوالنا وتسعد به حياتنا؛ وعلى هذا، فإن العمل لا يشكل هدفا للعلم المنـزّل فحسب، بل إنه يشكل روحه الخالصة، بحيث تصبح العلاقة بين العلمين -الإلهي والبشري- علاقة بين عمل رباني ونظر إنساني قد يليه التطبيق أو لا يليه."[49]
خاتمة:
 جليّة –إذن- مرتكزات العقلانية الإسلامية التي تسكن مشروع الحداثة الإسلامية المتصلة، فلا معنى للانفصال بين الإيمان والعقل، ولا معنى لخلع المواصفات الاستحواذية على الطبيعة، ولا معنى أيضاً لإقامة الأزواج المتقابلة والثنائيات المتضادة بين الملكات الإنسانية. فثمّة تضافر قوي، ومُواشجة إيمانية طافحة بالتوجّه نحو الله، ومهما بلغ العقل والمعرفة من مستويات عليا في اكتشاف سنن الله في الأنفس أو الكون، فإنّ مقصدهما ليس الاستيقان بذواتهما والاعتداد بهما ظلماً وعلوّاً، إنّما المقصد الأعظم إثبات أن لا إله إلاّ الله، وبهذا تتحرّر العقلانية والمعرفة من هيمنة العلمنة الغربية، التي هي مشروع غريب عن كرتنا الأرضية، جَلَبَ للبشرية مصائبَ لا حصر لها؛ إذ يصبح الهدف من المعرفة ليس هو تعظيم الواقع المادي، إنّما هو تعظيم المنظومة الإيمانية وتعظيم الله الواحد الأحد، والتوصل إلى الحكمة التي تقودنا إلى معرفة الله.
ذلك أن "الإسلام يعتبر أن الطّبيعة الحقيقية للعلم إنّما تسعى في النهاية لإثبات أن لاإله إلا الله، وأنّه لا توجد إلا حقيقة واحدة مطلقة هي الحقيقة الإلهية، وأن كل شيء سواه هو نسبي وجزئي، وهذا النّوع من الإدراك لا يملكه أي مخلوق سوى الإنسان، هذه المعرفة الوحيدة التي يستطيع الإنسان أن ينالها بيقين قاطع."
وتبعًا لهذا، تتحرّر المعرفة من هيمنة الرؤية الغربية وتعيد من جديد وصل الصلة بمنابع المعنى الحقيقية؛ أي الرؤية الإسلامية، لا بوصفها جدالاً كلاميّاً، إنّما بصفتها الركن الركين الذي يُقدِّم النموذج الحقيقي لإدراك العالَم برؤية توحيدية شاملة، وبنظام قيم روحية يُتصدّى بها لزحف القيم المادية التي تريد بسط كلمتها، وبقواعد مُوجَّهة إلى الإنسان يقتحم بها مشكلات حياته؛ من متطلّبات روتينه اليومي إلى أسئلة القلق الفلسفي الكبرى التي تُؤرِّقه، وبشواهد مُثلى أو نماذج حيّة تقتدي بها الإنسانية، بوصفها إحدى فئات القيادة التي تعمل على توجيه أشواق الأمة من الانجذاب نحو الغرب وعالمه، إلى الإسلام ونظامه والنماذج الحية التي صنعت حضارة الإسلام في العلوم والأخلاق.


[1] توران، ألان. نقد الحداثة، ترجمة: عبد السلام الطويل، المغرب: إفريقيا الشرق، 2010م، ص15-16.
[2] استعملنا مفردة "فكرانية" من الفعل "فكّر" بوصفها مصدرًا صناعيًّا، مثل مفردة "عقلانية" من الفعل "عقل"، ولم نستخدم المصطلح الشائع "إيديولوجية"؛ لأنّه ليس جارياً على عادات العرب في التعبير والتبليغ، بخلاف لفظة "فكرانية" الموافقة لقواعد الصرف وأصول الاشتقاق. انظر:
- عبد الرحمن، طه. تجديد المنهج في تقويم التراث، المغرب-بيروت: المركز الثقافي العربي، 1994م، ص24-25.
[3] عبد الرحمن، طه. سؤال الأخلاق (مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية)، المغرب-بيروت: المركز الثقافي العربي، 2002م، ص60.
[4] عبد الرحمن، طه. روح الدين من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية، المغرب-بيروت، المركز الثقافي العربي، 2012م، ص46.
[5] كانط، إيمانويل. ما التوجه في التفكير؟، ترجمة: محمود بن جماعة، تونس: دار محمد علي للنشر، 2005م، ص113.
[6] أبسالون، أدموندس. الموجز في راهن الإشكاليات الفلسفية-مشكل غاية التأسيس وعقلانية الفلسفة، ترجمة: أبو يعرب المرزوقي، تونس: الدار المتوسطية للنشر، 2009م، ص23.
[7] توران، نقد الحداثة، مرجع سابق، ص36.
[8] جارودي، روجيه. حفارو القبور: نداء جديد إلى الأحياء، سوريا: منشورات عويدات، ص78.
[9] تارناس، ريتشارد. آلام العقل الغربي: فهم الأفكار التي قامت بصياغة نظرتنا إلى العالم، ترجمة: فاضل جكتر، المملكة العربية السعودية-الإمارت العربية المتحدة: العبيكان، دار كلمة للترجمة، 2010م، ص342.
[10] المرجع السابق، ص344.
[11] المرجع السابق، ص346.
[12] عبارة لـِ"جون ماك فيري"، ذكرها:
- الشابي، نور الدين. نيتشه ونقد الحداثة، تونس: دار المعرفة الجامعية، 2005م، ص56.
[13] نصار، ناصيف. العلمانية انتصاراً للعدل، الرباط: منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، 2010م، ص138.
[14] المرجع السابق، ص141.
 [15]لاغريه، جاكلين. الدين الطبيعي، ترجمة، منصور القاضي، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1993م، ص96.
[16] المسكيني، أم الزين بنشيخة. كانط راهناً أو الإنسان في حدود مجرد العقل، المغرب-بيروت، المركز الثقافي العربي، 2006م، ص56.
[17] بلعقروز، عبد الرزاق. تحولات الفكر الفلسفي المعاصر: أسئلة المفهوم والمعنى والتواصل، الجزائر: منشورات الاختلاف، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2009م، مقدمة الكتاب.
[18] نصر، سيد حسين. "نـزع القداسة عن المعرفة في الغرب"، المحجة، عدد20، شتاء-ربيع 2010م، ص155.
[19] المرجع السابق، ص166.
[20] Nietzsche F, La volonté de puissance tom 1, Trad.G. Bianquis,N R F Galimmard, 1948, § 197, p. 99.
[21] Ibid., § 190, p. 96.
[22] موران، إدغار. هل نسير إلى الهاوية؟، ترجمة: عبد الرحيم حزل، الدار البيضاء: إفريقيا الشرق، 2012م، ص38.
[23] ماركيوز، هربرت. الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة: جورج طرابيشي، بيروت: منشورات الآداب، 1988م، ص189.
[24] المرجع السابق، ص190-191.
[25] Voir, Heidegger Martin. Essais et conférence, trad. Andre bréau, Gallimard, Paris: 1958, p. 9.
[26] المسيري، عبد الوهاب. العلمانية والحداثة والعولمة (حوارات)، تحرير: سوزان حرفي، سوريا: دار الفكر، 2009م، ص104.
[27] العطاس، سيد محمد نقيب. مداخلات فلسفية في الإسلام والعلمانية، ترجمة: محمد طاهر الميساوي، ماليزيا-الأردن: دار الفجر، دار النفائس، 2000م، ص43.
[28] المسيري، عبد الوهاب. حلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر-سيرة غير ذاتية وغير موضوعية، القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2001م، ص299.
[29] كايوا، روجي. الإنسان والمقدس، ترجمة: سميرة رشا، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2010م، ص39-40.
[30] عبد الرحمن، سؤال الأخلاق، مرجع سابق، ص75.
[31] العطاس، مداخلات فلسفية في الإسلام والعلمانية، مرجع سابق، ص159.
[32] حميد، سمير. خطاب الحداثة: قراءة نقدية، الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، سلسلة روافد، 2009م، ص36.
[33] المرجع السابق، ص35.
[34] بلقزيز، عبد الإله. العرب والحداثة: دراسة في مقالات الحداثيين، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2007م، ص28-29.
[35] العلواني، طه جابر. التوحيد ومبادئ المنهجية، ضمن: المنهجية الإسلامية، القاهرة: دار السلام، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2010م، ص351.
[36] المرجع السابق، الصفحة نفسها.
[37] كينغ، هانس. "الإيمان والعقل"، مجلة التسامح، عدد16، 2006م، ص52.
[38] أوغلو، أحمد داوود. العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية، ترجمة: إبراهيم البيومي، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2006م، ص47.
[39] العطاس، مداخلات فلسفية في الإسلام والعلمانية، مرجع سابق، ص64.
[40] بيجوفيتش، علي عزت. الإسلام بين الشرق والغرب، ترجمة: محمد يوسف عدس، القاهرة: دار الشروق، 2010م، ص292.
[41] عبد الرحمن، طه. الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، المغرب- بيروت: المركز الثقافي العربي، 2005م، ص18.
[42] بيجوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، مرجع سابق، ص297.
[43] العطاس، مداخلات فلسفية في الإسلام والعلمانية، مرجع سابق، ص60.
[44] عبد الرحمن، طه. سؤال العمل: بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم، المغرب-بيروت: المركز الثقافي العربي، 2012م، ص80.
[45] السيد، رضوان. "مسألة العقل وسلطته في النقاشات الإسلامية القديمة"، مجلة التسامح، عدد16، 2006م، ص11-12.
[46] عبد الرحمن، سؤال العمل، مرجع سابق، ص77.
 [47] الماوردي، أبو الحسن عليّ بن محمد. أدب الدنيا والدين، الجزائر-لبنان: الشركة الجزائرية اللبنانية، 2006م، ص12.
[48] العطاس، مداخلات فلسفية في الإسلام والعلمانية، مرجع سابق، ص60.
[49] عبد الرحمن، سؤال العمل، مرجع سابق، ص228.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تحسين التَّقبيح وتقبيح الحسن : حول صناعة المحتويات السَّافلة

في سؤال التغيير عبد الرزاق بلعقروز

التَّجربة و الآفاق الإدراكية الواسعة ..... عبد الرزاق بلعقروز