حوار صحفي مع الأستاذ الباحث عبد الرزاق بلعقروز

حوارات عامة

حوار صحفي مع الأستاذ الباحث عبد الرزاق بلعقروز

في البداية السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأطيب تحية لك الأخ نور الدين، أهلا وسهلا بكم، سعيد بتواصلي معكم وأُكرّر لكم شكري وامتناني.

- نحن نريد أن نعرف من هو الأستاذ عبد الرزاق بلعقروز؟
- في البداية من الأوْلى لنا عندما نكون بصدد الحديث عن الذّات أو الشخصية التنبيه إلى شخصيتتين اثنتين: فهناك الشخص الواقعي الذي نعرفه؛ وهناك الشخص المفهومي الذي نفكّر معه، فالأوّل موصول بالكلام عن شخصي الواقعي؛ فأنا جزائري المولد والنّشأة، تدرّجت في المراحل التعليمية من الابتدائية إلى الإكمالية إلى المرحلة الثانوية في سنة 2000، أين حصلت آنئذ على شهادة الباكالوريا، بعدها سجّلت بقسم الفلسفة جامعة منتوري قسنطينة وتخرّجت منها في سنة 2004، تخصُّص:منطق وفلسفة العلوم، ثم شاركت بمسابقة الدخول إلى السنة الأولى ماجستير بجامعة الجزائر قسم الفلسفة فنجحت وانتزعت المرتبة الأولى، وبالتوازي أيضا دخلت في مسابقة ماجستير تخصص فلسفة إسلامية بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الاسلامية فنجحت أيضا وحصلت على المرتبة الأولى، لكنّني اخترت مواصلة الدّراسة بجامعة الجزائر العاصمة، أين تخصّصّتُ  في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة، لأنجز خلال هذه الفترة أطروحة ماجستير حول " إشكالية التراتب في فلسفة نيتشه"، وأنا الآن أستاذ ومسؤول شعبة الفلسفة بجامعة فرحات عباس بسطيف الجزائر.
أما الشّخص المفهومي، فإنّني استجمع في اهتماماتي الفكرية منابع متعددة، أوْلاها بالتّقدُمة:التراث المعرفي الاسلامي بخاصة في مناحيه الأخلاقية والفكر الفلسفي العربي المعاصر، والحق أن اهتماماتي بالفيلسوف المغاربي طه عبد الرحمن هو من قادني  إلى مسالك التراث وقراءة أبو حامد الغزالي وأبو الحسن العامري والراغب الأصفهاني وغيرهم، وهذا وصف ملازم للانتاجية الفكرية بعامة، فما من مفكر أو فيلسوف إلا ومفاهيمه مركبة ومتعددة ولاوجود لمفهوم جوهري ذو ماهية منفصلة عن غيره.
هذا، دون أن تفوتني مسألة الإشارة إلى اهتماماتي بالفكر الفلسفي الغربي، وبحكم إنجازي لأطروحة ماجستير حول فلسفة نيتشه، فقد كانت فرصة ناجعة لمعرفة المنابع الأولى للنّقد الجذري للتراث المعرفي الغربي وأصوله اليونانية مع هذا الفيلسوف، وأنا الآن مهتم في أطروحتي للدكتوراه بامتدادات النقد النتشوي لقيمة المعرفة في الفكر الفلسفي بشقيه الغربي والعربي، وأتشرِّف بأن أستاذي الأستاذ الدكتور جمال مفرج يُشرف على هذه الأطروحة، مما زاد في تعرفي أكثر على الفكر الفلسفي الغربي بحكم اهتمامه وتوجيهه، فله وافر الشكر وجزيل التقدير. أما مؤلفاتي التي صدرت فهي تواليا:
-- تحوُّلات الفكر الفلسفي المعاصر-أسئلة المفهوم و المعنى و التواصل (الجزائر، لبنان).
- نيتشه ومهمة الفلسفة-قلب تراتب القيم و التأويل الجمالي للحياة. (الجزائر، لبنان).
- السؤال الفلسفي ومسارت الانفتاح-تأولات الفكر العربي للحداثة و مابعد الحداثة. (الجزائر، لبنان).
- المساءلة النقدية للحداثة والعولمة في مشروع طه عبد الرحمن الفلسفي. (الجزائر، ).
- مدخل إلى الفلسفة العامة. وهو تحت الطباعة (الأردن).
بالإضافة إلى المقالات المنشورة في مجلات علمية محكمة كمجلة مقاربات المغربية والكلمة وقضايا إسلامية معاصرة، والمشاركة في الملتقيات الدولية داخل الجزائر وخارجها.

-  سيدي العزيز ما رأيك في المشاريع الفلسفة العربية (المرحوم الجابري والمرحوم اركون وحنفي..)؟
إن الحديث عن مشاريع الفكر الفلسفي العربي المعاصر بخاصة الأسماء التي أوردتها يقتضي منا تفكيك المقولات و العناصر المنهجية التي جرى تشغيلها لديهم، ولقد أشرت في مقدمة كتابي "السؤال الفلسفي ومسارت الانفتاح" أن ما أنتجه الفكر العربي لم يكن سوى موميات أفكار، فهم يعتقدون أنهم يُشرّفون فكرة أو مشروعا عندما يحافضون على مدلولاته الأولى ويسعون إلى التطابق معها، فالحضور المكثّف للمفاهيم والمنهجيات الغربية دون إعادة إبداعها أو تصريفها تصريفا آخر، بما يتناسب والفضاء التداولي المنقول إليه، يجعل من مشاريعهم تقع في آفات جمّة، أجلاها ظهورا قلق العبارة ووعورة التّمكين لها لدى القارئ أو المتلقّي العربي و إيقاع الانفصال بين المعرفة والحياة، ما يجعلها أشبه بالكتلة المعرفية المترجمة أكثر منها فكرا يخدم الحياة ويعمل على إغنائها.
إن مكمن المشكلة هو أننا لم نُطوّر منهجيات  لكيفية الاشتغال على الفكر الغربي فضلا عن التراث المعرفي الاسلامي، مشكلتنا منهجية في جوهرها؛ مع حمل مفردة المنهج بأوسع معانيها، لافي التّشاغل بالمعرفة النّظرية فحسب؛ وإنما في إطار العقل العملي أيضا .
والمثال الذي نستجلبُه على هذا، أن محمد أركون مثلا عندما يكون بصدد الكلام في منهجيات العلوم الانسانية والإلحاح على ضرورة توظيفها، يتبدّى لنا وكأنه أمام خطاب عباري محض لا مكان للمُضمرات أو التحيُّزات فيه، و إذا كانت المنظورية Perspective أو التحيُّزات الإختلافية  بماهي رؤية تتأسّس على رفض التأويلات المطلقة للمعرفة العلمية والاحتفاظ بالنسبية منها مبثوثة في منطق العلوم الطبيعية، فماذا لوتعلّق الأمر بمنهجيات العلوم الانسانية التي تتوحّد فيها الذّات بالموضوع؛ وأمام هذا فمنهجيات العلوم الانسانية العزيزة على قلب محمد أركون، ليست حقائق وإنما تأويلات فحسب. إنها قفزة وسقطة في الآن نفسه وقع فيها  بعض فلاسفتنا القدامى أيضا  لمّا نُقلت إليهم المدونة الفلسفية اليونانية ممزوجة بكتب التّعاليم ( منهاكتب العلم الطبيعي)، فظنّوا أنّهم أمام نتاجات العقل الخالص، وفاتهم أن يُدركوا اندراج هذه المدوّنة الفلسفية في تصنيف قومي مخصوص  متشكّل وفق أبنية لغوية(صرفية ونحوية) للّسان الذي كتبوا به، ومرتبطة  يالسياق التاريخي والثقافي الذي نشأت فيه بما يجعلها متجذّرة لامتعالية ومنظورية لاكُلّية .
هذا فضلا عن الانتقادات التي تروج في سوق التداول لدى هذه الزمرة من المفكرين  اليوم، كوصف تراثنا المعرفي بالماضوية والبدائية والصّحراوية وغيرها من المفردات المُهْتَلكة دون وعي لمصادرها الاستشراقية التي هي اليوم في إحراج معرفي بسبب تراجع فلسفة الذّاتية التي تكوّنت في محاضنها هذه الرؤى، فهذه المقاربات لا مشكل لديها عندما ترفض العمل بالمعرفة التراثية الاسلامية، ودون وعي منها تقع في أحابيل تراث آخر، لأنه لامكان للمعرفة المنقطعة عن تاريخها، هذا ما قاله هيجل عندما كان  بصدد الحديث عن تداخل الأنساق المعرفية القديمة والحديثة؛ من أنّه لا توجد هناك فلسفة فُنّدت. إن الذي يحدث هو أن المبدأ الأساسي في فلسفة ما ينزل مرتبة ثانوية في فلسفة لاحقة، ويصبح مجرد لحظة من لحظاتها.
إن الفيلسوف الغربي المبُدع، لاينبذ العمل بالمعرفة التراثية بحجة المواصفات التي أوردنا، وإنما يدخل عليها تفكيكا وإعادة تركيب ويقوم بتصريفا تصريفا يقارب به ما استجد من مسائل النّظر أو ما استغلق في معاقد التفكير، فهذا "نيتشه" الذي يُقلده الكثير في عالمنا العربي وهو من منظورهم راهني ورهاني يُعدُّ التراث اليوناني ماقبل السقراطي أحد مكونات تفكيره المركزية، فالرجل أعاد إخراج الرموز الأسطورية والتأويل الجمالي للوجود مخرجا جديدا، والأدهش أنه استعار من التراث الشرقي نماذجه في تأويل الحياة والتشريع لها .
من هنا، فإن ما أنتجته هذه المشاريع بخاصة الأسماء التي أوردتها مَعْقِدَ الطَّرافة لديها هو قلق السؤال وتقديم مفاهيم ووفرة معلوماتية في أُطر بيداغوجية تدريسية، أمّا تحصيل القدرة على تغيير الأوضاع  في مجتمعنا أو بث هِمَّة الدخول إلى التاريخ والخروج من نفق التخلُّف المظلم فلا أتصوّر أنها استوفت شروط هذا الهدف.

- الكثير من الباحثين يعتبرون أننا بعيدون عن الإنتاج الفلسفي الحقيقي وما ننتجه لا يمكن اعتباره فكرا فلسفيا  هل أنت متفق معهم؟
- بالفعل، إنّنا بعيدون عن الانتاج الفلسفي الحقيقي، وهذا ليس بسبب ميكانيزمات فطرية لدينا، كما أن هذا الحكم لايؤخذ على إطلاقه كما يقول علماء الأصول، فهناك مشاريع نُكنُّ لها احتراما كبيرا، واستطاعت أن تُتقن أليتا الاستيعاب والتجاوز للفكر الغربي، فهذا مالك بن نبي فيلسوف الحضارة الجزائري عندما تقرأ مفاهيمه تستشعر مدى اطلاع الرجل على الثقافة الغربية، غير أنه طوّر منهجا مخصوصا في كيفية التعامل معها، فهو شأنه شأن الحداثيين العرب مثلا، اشتغل على النّص القرآني وقرأه بأدوات ومنهجيات العلوم الانسانية؛ غير أنه لم ينته إلى النتيجة نفسها، بمعنى أنه أظهر عناصر الاعجاز في القرآن وأزال الأقنعة عن مقاربات المستشرقين المحدودة متوسّلا من أجل هذا بعلم الأديان المقارن واللّسانيات وغيرها  في كتابه الظاهرة القرآنية.
إن الإنتاج الفلسفي الحقيقي لن يكون بإجهاد أنفسنا من أجل تقليد المفاهيم الغربية، لأن الوهم الراسخ لدينا هو الاعتقاد بأن النّموذج الفلسفي الغربي هو النموذج الكوني العقلاني الخالص، مع أن الأدهش في  مناحي التفلسف الغربي أنّها أضحت تُؤسّس لمفاهيمها استلهاما من المناحي الدينية الشرقية أمثلة هذه الحقيقية :إيمانويل ليفيناس وتأسيس الأخلاق على التراث التلمودي اليهودي، ريكور وتأصيل التأويلية في البروتستنتية المسيحيةّ، هيدجر والطّاوية، شوبنهاور والبديل البوذي للعقلانية الغربية. فما نتوهمه نحن عقلانيا خالصا إن هو إلا منظورات نسبية تعكس في حقيقتها تدبير الكائن لشروط لوجوده في ظروف وجودية مخصوصة.
ومن الأدوات الفاعلة للخروج من عقلية الفلسفة الكونية أوالفلسفة الخالصة؛ بعث  الاهتمام بمشروع "الفلسفة المقارِنة"؛ بخاصة في منظوماتنا التعليمية  لأنها ناجعة  في تفتيت الاعتقاد بوجود العقلانية الكونية الواحدة وتربّي في المتلقي ثقافة الاختلاف والاعتراف وتفسح المجال لتعددية المعنى واختلاف التآويل، من هنا فإنه لا إبداع من دون أصالة ذاتية تُسهم في الكونية باعتبارها مجموعة خصوصيات.

- لماذا نجد حضور كبير لرمو ز فلسفية تمثل مدرسة ما بعد الحداثة في الفلسفة العربية المعاصرة؟
- ليس مشكلا مثل هذا التواجد لمنظورات مابعد الحداثة في الفكر الفلسفي العربي المعاصر، المشكل هو التلقّي الإسفنجي لهذه المنظورات والعجز في المقابل عن مغادرة ترسيماتها وأسئلتها، عندما تقرأ لنماذج من كتابات هؤلاء تشعُر وكأنّك أمام واقع آخر غير واقع الحياة التي تعيشها وأجوبة عن أسئلة أخرى لاتعانيها أنت وليست مكونا دلاليا أوشعوريا لنمط وجودك، فنقع في هذا التمزق بين الفكر و الحياة أو بين المعرفة والوجود.
لقد كتبت في مؤلفي : السؤال الفلسفي ومسارات الانفتاح عن نموذج من هؤلاء، أقصد النّاقد اللّبناني علي حرب، الذي يُناضل من أجل الانفتاح على الأفق الرحب لما بعد الحداثة وشغّل من أجل هذا المساءلة النيتشوية، والحقيقة أن علي حرب لم يقرأ نيتشه مباشرة، وإنما قرأه متأثّرا بتأويلات دريدا وهيدجرله، فضلا عن استلهامه دون وعي من فلسفات يونانية قديمة أعاد بعثها فلاسفة مابعد الحداثة أجلاها ظهورا فلسفة الصّيرورة اللاّمتناهية للوجود عند هيرقليطس وما يتشعّب عنها من تحوّل متدوّم في التأويل والتحويل دون مقصدية أو قيمة.
وفي مقابل هذه المناحي الإسفنجية في صلة الفكر العربي المعاصر بما بعد الحداثة؛ فإنّ هناك من تعامل معها " أي مابعد الحداثة " بروح الانتقام من الحداثة نفسها فوظّفها من أجل غايات نفسية متخيّلة لاتعُلُّق لها بالتفكير و الانجاز وهذا أيضا من معوّقات الفعل الحداثي المتوازن.
إن الملمح الذي نستجلبه نحن من فلسفة مابعد الحداثة هو الإبانة عن مناحي النّسبية والمحدودية لنظريات المركزية الإنسانية والإبصار في المنظومة الثقافية الغربية أنها مجرد تأويل نسبي للعالم فضلا عن أنها تخفي حقائق تاريخية مطموسة كشفتها لنا المساءلة الأركيولوجية لميشال فوكو في كتابته للتّواريخ المُصغّرة كتاريخ العقوبة والسجن، من أن الثقافة الغربية صنعتها أنظمة العقاب أكثر من الإيمان بقيم المجتمع المدني والانضباط الذّاتي، غير أن هذا لا يقتضي الانسياق خلف رؤاها للعالم، لأن هذا الانسياق يهوي بنا في مكان سحيق،  واسمحلي أن أنقل لكم  عبارة أوردتها في كتابي:" السؤال الفلسفي ومسارات الانفتاح" في سياق الحديث عن تجديد مهمة الفلسفة والوصل في هذا التجديد بين البُعد الوجودي و البُعد الأخلاقي أو معرفة الحق والعمل به بعبارة أبو يعقوب بن اسحاق الكندي  " بما هو المسلك الفطري الرشيد نحو إعادة قيمة المعنى واستعادة المسوِّغات الوجودية أو أسئلة المعنى الكبرى التي تنتظرها تلك الأرواح المتألمّة لفراغها وحيرتها وتيهها. إن حداثة التقنية قد حقّقت المعجزات في عالم الاكتشافات وعالم العلوم لكنها فقدت في أعماق نفسها مسوغات وجودها، ذلك البعد الذي لايمكن ملؤه إلا بالإرتقاء إلى مستوى قداسة الوجود. أما مُبتغانا في وصل الفلسفة بالحق هو أن نصرف فعلنا الفلسفي عن الإتجاهات الفلسفية التي لا تعترف إلا بالصيرورة في الوجود باعتبارها الثابت الوحيد، ولاتقر إلا بالاندراج المتدوم في التأويل اللامتناهي للأشياء، إننا لا ننكر الصيرورة في الوجود، لكننا نريد وصلها بالغائية حتى تكون صيرورة وجودنا غائية مرادها الوصول إلى الحق، أما إذا بقيت المناحي الفلسفية في التفكير موصولة بمطلق الصيرورة فسنسميها جريانا، لأن الجريان هو الحركة دون هدف ولا مستقر وغاية".

- الكثير من الباحثين يقولون بنهاية الفلسفة وبروز عصر العلم ما ذا تقولون؟
- كثُر الحديث خلال هذه الأيام عن حديث" النهايات": نهاية الفلسفة، نهاية التاريخ، نهاية الانسان. وفيما يتصل بالفلسفة؛ فإن مقولة نهاية الفلسفة يراد منها موت شكل مخصوص من أشكال التّفلسف بخاصة فلسفات الأنساق التي تدّعي تقديم تفسير كُليّ عن العالم بإدراجه ضمن مقولاتها النّظرية وشبكاتها المفهومية، و في المقابل إفساح المجال للتّعدُّدية والمنظورية والقيمة التداولية للمعرفة .
غير أنه وفي دوائر الثقافة، فإن المُراد المُستبطن خلف مفردة النهاية فهو: هيمنة نمطية ثقافية على غيرها من أنماط الثقافات الأخرى بدعوى بلوغ المطق أو الاكتمال كمقولة نهاية التاريخ التي تعني الرُّكون إلى النموذج الثقافي الغربي في تمظهره الأمريكي .
إن حديث النّهايات مخادع في أكثر أفكاره ومقاصده، لأن التاريخ لم ينْته بعد، ومازالت مساراته في مرحلة مخاض تتجه نحو التوازن الوجودي، فالوجود من التكثُر والانفتاح بما يستحيل اختزاله في نسق مُغلق أو ضمن منظومة فكرية محدّدة، وهذه الخلاصة بخلاف ماكان يتوهّمُه هيجل عندما رفع العقلانية الغربية إلى رتبة الوعي المُطلق بالذّات أين اختتمت معها لحظات تمظهرات العقل في التاريخ.
أما بخصوص موضوعة نهاية الفلسفة التي  يتفق عليها العامة في حسّهم المشترك والعقول التقنية في مخابرها، فإنّها عرفت رواجا مع هيمنة الثقافة العلمية، لكنها تراجعت وفقدت بريقها الأدبي بسبب تطوير نظريات النّسبية والإحتمالية في الفيزياء وتلاشي ركائز الفكر العلمي كالإيمان بالانفصال بين القيمة و الواقع  أوالتعارض بين العلم والدين أو اعتبار المنهج التجريبي مسلكا آمنا نحو المعرفة العلمية " اليقينية".
إن الفلسفة اليوم تذكّر حفاري قبرها بأنهم لن يستطيعوا الاستغناء عنها، لأن العلم اليوم هو من أضحى في حاجة إلى تأسيس فلسفي، والأدهش أن الأزمات التي تسبّب فيها العلم كالاحتباس الحراري مثلا؛ فإن الفلسفة اليوم هي من تسعى إلى إصلاح أعطابها، والدّليل على ذلك نشوء فروع معرفية فلسفية جديدة :كالإيكوصوفيا أو الكونيات البيئية التي تهدف إلى تغيير رؤيتنا عن العالم من جهة كونه لا كمكان للسّلب والنّهب، وإنما كحرم نسكن إليه وعلينا واجب الاعتناء به، وتغيير مفهومنا عن المعرفة بخاصة العلمية منها لاباعتبارها أداة من أدوات السيطرة على الطبيعة، بل فنونا لتهذيب النّفس والتحكّم في غرائز المعرفة اللاّمحدودة، وأيضا هناك البيوإيطيقا أو أخلاقيات البيولوجيا، ومدار موضوعها  دراسة القضايا الأخلاقية المترتّبة عن التقدم العلمي الحاصل في التقنيات الجديدة في علوم الصحة و الحياة، دراسة ترمي إلى اقتراح المبادئ الأخلاقية التي يتطلبها ضبط توجيه ذلك التقدم . فضلا عن أخلايات التجارة وأخلاقيات الإدارة والتّشيط الجلي لفلسفة القيم .
أما رهانات التفلسف في دوائرنا الثقافية فيجوز لنا رصدها في المحدّدات المتوالية:
- إعادة الإعتبار للرؤية الكونية التوحيدية كبديل للمنظورية النّسبية الغربية التي أفقدت الوجود ماهيته ومعناه.
- التوافق والتوازن بين مصادر المعرفة المطلقة و النسبية: أي بين الوحي المُمد بالإجابة  عن الأسئلة الكلية و النهائية أو أسئلة القلق الفلسفي ( أسئلة المأتي و المعنى و المصير) وبين السُّنن الكونية و النّفسية في عالم الإنسان والكون .
- مركزية نظام القيم في توجيه الحياة الاجتماعية وضبط آلياتها  داخليا و التأسيس لإنسان التّعارف خارجيا.
- إعادة الإعتبار للرّحم الكوني أو البيئة  بتقديم مشروع متكامل حول حولها.
- الجمع الخصوصية والكونية أو بين الأصالة و التعددية الثقافية .

- انتم من الذين كتبتم عن المفهوم الفلسفي والجدل بين الكونية والخصوصية فهل تتفقون مع الدكتور طه عبد الرحمان في تأصيل المفاهيم ؟
- إن صلتي بالإنتاجية الفكرية لطه عبد الرحمن صلة مبكّرة؛ وما جعلني أهتم به أنّني لم أكن أشعر بالاغتراب مع أفكاره، إذ هو يجمع بين التراث المعرفي الاسلامي وبين أحدث النّظريات في دوائر المنطق ومباحث التداوليات ونظريات الحجاج والمناظرة والتواصل، فضلا عن جمالية اللغة و ورقّة المشاعر الإيمانية، ولدي عمل صدر هذه الأيام عن منشورات جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة الجزائر، عنوانه " المساءلة النقدية للحداثة و العولمة في مشروع طه عبد الرحمن الفلسفي".
وبالفعل فإن الأستاذ طه قد اهتم بالمفهوم الفلسفي وخصّه بمساحات تحليلية مركزية في أعماله؛ وما ذلك إلا لأنه أدرك  أن لا مخرج من عقلية الاتباع إلا بالوقوف على المفهوم الفلسفي وقوفا علميا رصدا ووصفا وشرحا؛ نتمكّن بعدها من معرفة القوانين والعناصر التي تدخل في  إنشائه وتركيبه، كيْما يسلك العقل المسلم هذه القوانين وبالتالي يخرج من متاهة تقليد المفاهيم الفلسفية المنقولة إلى تحصيل القدرة على إبداعها، وأود أن أتوقف على عبارة  "تأصيل المفاهيم"، الواردة في سؤالكم الكريم ؛ فهي برأيى لا تعبّر عن حقيقة المشروع، لأن طه عبد الرحمن في اشتغاله على المفاهيم بعامة يرى بأنّنا إما أن  ننشئ مفاهيمنا إبتداء؛ وإما أن نعيد إبداع المفاهيم المنقولة حتى تبدو وكأنها من إبداعنا ابتداء، هذا ما طبّقه "طه" في تخريجه لواقعة الحداثة عندما أعاد إبداع  مفهوم الحداثة الغربي، وكانت الثمرة إدخال ثنائية جديدة إلى فضاء الاشتغال الفلسفي العربي هي: ثنائية  الحداثة كواقع غربي متحقّ ؛ وروح الحداثة باعتبارها المبادئ الأساسية الموصوفة بالكونية (مبدأ الرشد ومبدأ النقد ومبدأ الشمول)، لذلك فالأقوم هو أن نسمّيه  "مشروع إعادة إبداع المفاهيم"، لا تأصيل المفاهيم، بخاصة وأن طه قد هجر مفردة التأصيل بصورة نهائية واستبدلها بمفردة " التأثيل" .
إن طه عبد الرحمن في استشكاله للمفهوم الفلسفي أدخلنا إلى ورشة الفيلسوف وجملة الأدوات والعناصر التي يستعملها في عملية التصنيع المفهومي، حيث خلصت مقاربته إلى أن المفهوم الفلسفي ليس ذوقا أدبيا لأنه يتوسّل يضوابط العقل، فضلا عن أنه ليس مقولة علمية خالصة لدخول جوانب الإشارة وسوابق اللُّغة الطبيعية عليه، وما قلق العبارة في المفهوم الفلسفي إلا لأن المتفلسف العربي لم يُجري صياغة مفاهيمه على عاداته في التعبير والتبليغ، ولم يستمد من مجاله التداولي وعناصره العقدية واللّغوية و المعرفية.
وبخصوص ترجمة المفاهيم  الفلسفية فإنه يجب تزويد المفهوم الفلسفي المنقول من  لسان إلى آخر بالمضمرات التداولية من قبل المتلقي بشكليه: التزويد المضموني و التزويد البنيوي، أي الاحتفاظ بجانبه العقلي العلمي الممكن واستبدال مضمراته الخاصة بمجاله التداولي الأصلي-استبدالها- بالجوانب الموصولة بدائرة الفكر المشترك :  أي تزويده بالحقائق والقيم.
وتكمن وجاهة المشروع الطهائي في "ورشة صناعة المفاهيم الفلسفية " وانتزاعه المشروعية ممّن يزاولون التفلسف ؛ تمرّسه باللّغات التي كتب بها أمثال: أفلاطون وديكارت وهيدجر وجيل دولوز، لأنه بإتقانه لألسنة هؤلاء اكتشف كيف تدخل لغة الفيلسوف ووحداها في تكوين المفهوم الفلسفي، في حين أنّنا لازلنا نتوهم أن المفهوم يحلّق في الهواء تحليق الرّجل الطائر منفصلا عن مجاله التداولي.
وحقيق علينا استثمار هذه الإنجازات المنهجية في إنشائنا للمفاهيم الفلسفية الإبداعية للخروج من تلقّي المفاهيم إلى رتبة صناعتها.
أما مدار الانتقادات التي وجّهتها لطه عبد الرحمن فموصوله بقيمة مشروع "الحداثة الرقائقية"، حيث بدى لنا أنه وقع فيما عمل على هدمه وفيما ظل يحاربه، لأن الحداثة ليست مسلكا معنويا أخلاقيا فحسب، وإنما هي مركّب من مبدأ أخلاقي وذوق جمالي ومنطق عملي وصناعة، هذا المركب يتحرّك بمنهج تكاملي ومتوازن، لأنّه لدينا نماذج من تاريخنا الإسلامي ركنت إلى التربية الأخلاقية منفصلة عن دوائر الحياة الأخرى  فاستحالت إلى كيانات معرفية متنافرة  تأبى الاندماج وبعضها انتهى إلى التأويل الخرافي لبعض مشكلات الحياة الانسانية، لأن التاريخ يبدأ ويتحرك بالإنسان المتكامل الذي يطابق دائما بين جهده ومثله الأعلى و حاجاته الأساسية حتى يحقق وظيفة التمثيل و الشهادة، أما حين يصبح الإيمان إيمانا جذبيا دون إشعاع ؛ فإن رسالته التاريخية تنتهي على الأرض، إذ يصبح عاجزا عن دفع الحضارة وتحريكها، إنه يصبح إيمان رهبان، يقطعون صلاتهم بالحياة، ويتخلون عن واجباتهم ومسؤوليتهم، كأولئك الذين لجأوا إلى صوامع المرابطين منذ عهد ابن خلدون كما يقول مالك بن نبي في كتابه وجه العالم الإسلامي.
في نهاية هذا الحوار أكُرّر لكم شُكري على هذا التواصل المعرفي الذي سعدت به كثيرا، وأتمنى أن تتجدّد لقاءاتنا دائما ودمتم في خدمة المعرفة النافعة والثقافة الفاعلة . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد الرزاق بلعقروز 03/03/2011

اجرى الحوار نورالدين علوش-المغرب

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تحسين التَّقبيح وتقبيح الحسن : حول صناعة المحتويات السَّافلة

في سؤال التغيير عبد الرزاق بلعقروز

التَّجربة و الآفاق الإدراكية الواسعة ..... عبد الرزاق بلعقروز