باحث جزائري في حوار حول رهانات التفلسف
| |||||
عبد الرزاق بلعقروز يرى أن الحديث عن مشاريع الفكر الفلسفي العربي المعاصر يقتضي تفكيك بعض المقولات والعناصر المنهجية.
| |||||
ميدل ايست أونلاين
| |||||
أجرى الحوار ـ نورالدين علوش
| |||||
يقدم الباحث الجزائري عبدالرزاق بلعقروز نفسه بقوله:
عندما نكون بصدد الحديث عن الذّات أو الشخصية يجب التنبيه إلى شخصيتتين اثنتين: فهناك الشخص الواقعي الذي نعرفه؛ وهناك الشخص المفهومي الذي نفكّر معه، فالأوّل موصول بالكلام عن شخصي الواقعي؛ فأنا جزائري المولد والنّشأة ، تدرّجت في المراحل التعليمية من الابتدائية إلى الإكمالية إلى المرحلة الثانوية في سنة 2000، أين حصلت آنئذ على شهادة الباكالوريا، بعدها سجّلت بقسم الفلسفة جامعة منتوري قسنطينة وتخرّجت منها في سنة 2004، تخصُّص: منطق وفلسفة العلوم، ثم شاركت بمسابقة الدخول إلى السنة الأولى ماجستير بجامعة الجزائر قسم الفلسفة فنجحت وانتزعت المرتبة الأولى، وبالتوازي أيضا دخلت في مسابقة ماجستير تخصص فلسفة إسلامية بجامعة الأمير عبدالقادر للعلوم الاسلامية فنجحت أيضا وحصلت على المرتبة الأولى، لكنّني اخترت مواصلة الدّراسة بجامعة الجزائر العاصمة، أين تخصّصّتُ في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة، لأنجز خلال هذه الفترة أطروحة ماجستير حول "إشكالية التراتب في فلسفة نيتشه"، وأنا الآن أستاذ ومسؤول شعبة الفلسفة بجامعة فرحات عباس بسطيف الجزائر.
أما الشّخص المفهومي، فإنّني استجمع في اهتماماتي الفكرية منابع متعددة، أوْلاها بالتّقدُمة:التراث المعرفي الاسلامي بخاصة في مناحيه الأخلاقية والفكر الفلسفي العربي المعاصر، والحق أن اهتماماتي بالفيلسوف المغاربي طه عبد الرحمن هو من قادني إلى مسالك التراث وقراءة أبو حامد الغزالي وأبو الحسن العامري والراغب الأصفهاني وغيرهم، وهذا وصف ملازم للانتاجية الفكرية بعامة، فما من مفكر أو فيلسوف إلا ومفاهيمه مركبة ومتعددة ولاوجود لمفهوم جوهري ذو ماهية منفصلة عن غيره.
هذا، دون أن تفوتني مسألة الإشارة إلى اهتماماتي بالفكر الفلسفي الغربي، وبحكم إنجازي لأطروحة ماجستير حول فلسفة نيتشه، فقد كانت فرصة ناجعة لمعرفة المنابع الأولى للنّقد الجذري للتراث المعرفي الغربي وأصوله اليونانية مع هذا الفيلسوف، وأنا الآن مهتم في أطروحتي للدكتوراه بامتدادات النقد النتشوي لقيمة المعرفة في الفكر الفلسفي بشقيه الغربي والعربي، وأتشرِّف بأن أستاذي الأستاذ الدكتور جمال مفرج يُشرف على هذه الأطروحة، مما زاد في تعرفي أكثر على الفكر الفلسفي الغربي بحكم اهتمامه وتوجيهه، فله وافر الشكر وجزيل التقدير. أما مؤلفاتي التي صدرت فهي تواليا:
- تحوُّلات الفكر الفلسفي المعاصر.. أسئلة المفهوم و المعنى و التواصل(الجزائر، لبنان).
- نيتشه ومهمة الفلسفة .. قلب تراتب القيم و التأويل الجمالي للحياة. (الجزائر، لبنان).
-السؤال الفلسفي ومسارت الانفتاح .. تأولات الفكر العربي للحداثة و مابعد الحداثة. (الجزائر، لبنان).
- المساءلة النقدية للحداثة والعولمة في مشروع طه عبد الرحمن الفلسفي. (الجزائر).
بالإضافة إلى المقالات المنشورة في مجلات علمية محكمة كمجلة مقاربات المغربية والكلمة وقضايا إسلامية معاصرة، والمشاركة في الملتقيات الدولية داخل الجزائر وخارجها.
وعن رأيه في المشاريع الفلسفة العربية (الجابري، اركون، حنفي.. ) يقول: إن الحديث عن مشاريع الفكر الفلسفي العربي المعاصر بخاصة الأسماء التي أوردتها يقتضي منا تفكيك المقولات والعناصر المنهجية التي جرى تشغيلها لديهم، ولقد أشرت في مقدمة كتابي "السؤال الفلسفي ومسارت الانفتاح" أن ما أنتجه الفكر العربي لم يكن سوى موميات أفكار، فهم يعتقدون أنهم يُشرّفون فكرة أو مشروعا عندما يحافضون على مدلولاته الأولى ويسعون إلى التطابق معها، فالحضور المكثّف للمفاهيم والمنهجيات الغربية دون إعادة إبداعها أو تصريفها تصريفا آخر، بما يتناسب والفضاء التداولي المنقول إليه، يجعل من مشاريعهم تقع في آفات جمّة، أجلاها ظهورا قلق العبارة ووعورة التّمكين لها لدى القارئ أو المتلقّي العربي و إيقاع الانفصال بين المعرفة والحياة، ما يجعلها أشبه بالكتلة المعرفية المترجمة أكثر منها فكرا يخدم الحياة ويعمل على إغنائها.
إن مكمن المشكلة هو أننا لم نُطوّر منهجيات لكيفية الاشتغال على الفكر الغربي فضلا عن التراث المعرفي الاسلامي، مشكلتنا منهجية في جوهرها؛ مع حمل مفردة المنهج بأوسع معانيها، لافي التّشاغل بالمعرفة النّظرية فحسب؛ وإنما في إطار العقل العملي أيضا.
والمثال الذي نستجلبُه على هذا، أن محمد أركون مثلا عندما يكون بصدد الكلام في منهجيات العلوم الانسانية والإلحاح على ضرورة توظيفها، يتبدّى لنا وكأنه أمام خطاب عباري محض لا مكان للمُضمرات أو التحيُّزات فيه، وإذا كانت المنظورية أو التحيُّزات الإختلافية بما هي رؤية تتأسّس على رفض التأويلات المطلقة للمعرفة العلمية والاحتفاظ بالنسبية منها مبثوثة في منطق العلوم الطبيعية، فماذا لوتعلّق الأمر بمنهجيات العلوم الانسانية التي تتوحّد فيها الذّات بالموضوع؛ وأمام هذا فمنهجيات العلوم الانسانية العزيزة على قلب محمد أركون، ليست حقائق وإنما تأويلات فحسب. إنها قفزة وسقطة في الآن نفسه وقع فيها بعض فلاسفتنا القدامى أيضا لمّا نُقلت إليهم المدونة الفلسفية اليونانية ممزوجة بكتب التّعاليم (منها كتب العلم الطبيعي)، فظنّوا أنّهم أمام نتاجات العقل الخالص، وفاتهم أن يُدركوا اندراج هذه المدوّنة الفلسفية في تصنيف قومي مخصوص متشكّل وفق أبنية لغوية (صرفية ونحوية) للّسان الذي كتبوا به، ومرتبطة يالسياق التاريخي والثقافي الذي نشأت فيه بما يجعلها متجذّرة لامتعالية ومنظورية لاكُلّية.
هذا فضلا عن الانتقادات التي تروج في سوق التداول لدى هذه الزمرة من المفكرين اليوم، كوصف تراثنا المعرفي بالماضوية والبدائية والصّحراوية وغيرها من المفردات المُهْتَلكة دون وعي لمصادرها الاستشراقية التي هي اليوم في إحراج معرفي بسبب تراجع فلسفة الذّاتية التي تكوّنت في محاضنها هذه الرؤى ، فهذه المقاربات لا مشكل لديها عندما ترفض العمل بالمعرفة التراثية الاسلامية، ودون وعي منها تقع في أحابيل تراث آخر، لأنه لامكان للمعرفة المنقطعة عن تاريخها، هذا ما قاله هيجل عندما كان بصدد الحديث عن تداخل الأنساق المعرفية القديمة والحديثة؛ من أنّه لا توجد هناك فلسفة فُنّدت. إن الذي يحدث هو أن المبدأ الأساسي في فلسفة ما ينزل مرتبة ثانوية في فلسفة لاحقة، ويصبح مجرد لحظة من لحظاتها.
إن الفيلسوف الغربي المبُدع، لا ينبذ العمل بالمعرفة التراثية بحجة المواصفات التي أوردنا، وإنما يدخل عليها تفكيكا وإعادة تركيب ويقوم بتصريفا تصريفا يقارب به ما استجد من مسائل النّظر أو ما استغلق في معاقد التفكير، فهذا "نيتشه" الذي يُقلده الكثير في عالمنا العربي وهو من منظورهم راهني ورهاني يُعدُّ التراث اليوناني ماقبل السقراطي أحد مكونات تفكيره المركزية، فالرجل أعاد إخراج الرموز الأسطورية والتأويل الجمالي للوجود مخرجا جديدا، والأدهش أنه استعار من التراث الشرقي نماذجه في تأويل الحياة والتشريع لها.
من هنا، فإن ما أنتجته هذه المشاريع بخاصة الأسماء التي أوردتها مَعْقِدَ الطَّرافة لديها هو قلق السؤال وتقديم مفاهيم ووفرة معلوماتية في أُطر بيداغوجية تدريسية، أمّا تحصيل القدرة على تغيير الأوضاع في مجتمعنا أو بث هِمَّة الدخول إلى التاريخ والخروج من نفق التخلُّف المظلم فلا أتصوّر أنها استوفت شروط هذا الهدف.
ويتفق بلعقروز على أننا بعيدون عن الإنتاج الفلسفي الحقيقي وما ننتجه لا يمكن اعتباره فكرا فلسفيا، ويقول: بالفعل، إنّنا بعيدون عن الإنتاج الفلسفي الحقيقي، وهذا ليس بسبب ميكانيزمات فطرية لدينا، كما أن هذا الحكم لايؤخذ على إطلاقه كما يقول علماء الأصول، فهناك مشاريع نُكنُّ لها احتراما كبيرا، واستطاعت أن تُتقن آليتي الاستيعاب والتجاوز للفكر الغربي، فهذا مالك بن نبي فيلسوف الحضارة الجزائري عندما تقرأ مفاهيمه تستشعر مدى اطلاع الرجل على الثقافة الغربية، غير أنه طوّر منهجا مخصوصا في كيفية التعامل معها، فهو شأنه شأن الحداثيين العرب مثلا، اشتغل على النّص القرآني وقرأه بأدوات ومنهجيات العلوم الانسانية؛ غير أنه لم ينته إلى النتيجة نفسها، بمعنى أنه أظهر عناصر الاعجاز في القرآن وأزال الأقنعة عن مقاربات المستشرقين المحدودة متوسّلا من أجل هذا بعلم الأديان المقارن واللّسانيات وغيرها في كتابه الظاهرة القرآنية.
إن الإنتاج الفلسفي الحقيقي لن يكون بإجهاد أنفسنا من أجل تقليد المفاهيم الغربية، لأن الوهم الراسخ لدينا هو الاعتقاد بأن النّموذج الفلسفي الغربي هو النموذج الكوني العقلاني الخالص، مع أن الأدهش في مناحي التفلسف الغربي أنّها أضحت تُؤسّس لمفاهيمها استلهاما من المناحي الدينية الشرقية أمثلة هذه الحقيقية :إيمانويل ليفيناس وتأسيس الأخلاق على التراث التلمودي اليهودي، ريكور وتأصيل التأويلية في البروتستنتية المسيحيةّ، هيدجر والطّاوية، شوبنهاور والبديل البوذي للعقلانية الغربية. فما نتوهمه نحن عقلانيا خالصا إن هو إلا منظورات نسبية تعكس في حقيقتها تدبير الكائن لشروط لوجوده في ظروف وجودية مخصوصة.
ومن الأدوات الفاعلة للخروج من عقلية الفلسفة الكونية أوالفلسفة الخالصة؛ بعث الاهتمام بمشروع "الفلسفة المقارِنة"؛ بخاصة في منظوماتنا التعليمية لأنها ناجعة في تفتيت الاعتقاد بوجود العقلانية الكونية الواحدة وتربّي في المتلقي ثقافة الاختلاف والاعتراف وتفسح المجال لتعددية المعنى واختلاف التآويل، من هنا فإنه لا إبداع من دون أصالة ذاتية تُسهم في الكونية باعتبارها مجموعة خصوصيات.
وعن السؤال: لماذا نجد حضور كبير لرموز فلسفية تمثل مدرسة ما بعد الحداثة في الفلسفة العربية المعاصرة؟
يجيب الباحث عبد الرزاق بلعقروز: ليس مشكلا مثل هذا التواجد لمنظورات مابعد الحداثة في الفكر الفلسفي العربي المعاصر، المشكل هو التلقّي الإسفنجي لهذه المنظورات والعجز في المقابل عن مغادرة ترسيماتها وأسئلتها، عندما تقرأ لنماذج من كتابات هؤلاء تشعُر وكأنّك أمام واقع آخر غير واقع الحياة التي تعيشها وأجوبة عن أسئلة أخرى لاتعانيها أنت وليست مكونا دلاليا أوشعوريا لنمط وجودك، فنقع في هذا التمزق بين الفكر و الحياة أو بين المعرفة والوجود.
لقد كتبت في مؤلفي: السؤال الفلسفي ومسارات الانفتاح عن نموذج من هؤلاء، أقصد النّاقد اللّبناني علي حرب، الذي يُناضل من أجل الانفتاح على الأفق الرحب لما بعد الحداثة وشغّل من أجل هذا المساءلة النيتشوية، والحقيقة أن علي حرب لم يقرأ نيتشه مباشرة، وإنما قرأه متأثّرا بتأويلات دريدا وهيدجرله، فضلا عن استلهامه دون وعي من فلسفات يونانية قديمة أعاد بعثها فلاسفة مابعد الحداثة أجلاها ظهورا فلسفة الصّيرورة اللاّمتناهية للوجود عند هيرقليطس وما يتشعّب عنها من تحوّل متدوّم في التأويل والتحويل دون مقصدية أو قيمة.
وفي مقابل هذه المناحي الإسفنجية في صلة الفكر العربي المعاصر بما بعد الحداثة؛ فإنّ هناك من تعامل معها "أي مابعد الحداثة" بروح الانتقام من الحداثة نفسها فوظّفها من أجل غايات نفسية متخيّلة لاتعُلُّق لها بالتفكير والإنجاز وهذا أيضا من معوّقات الفعل الحداثي المتوازن.
إن الملمح الذي نستجلبه نحن من فلسفة مابعد الحداثة هو الإبانة عن مناحي النّسبية والمحدودية لنظريات المركزية الإنسانية والإبصار في المنظومة الثقافية الغربية أنها مجرد تأويل نسبي للعالم فضلا عن أنها تخفي حقائق تاريخية مطموسة كشفتها لنا المساءلة الأركيولوجية لميشال فوكو في كتابته للتّواريخ المُصغّرة كتاريخ العقوبة والسجن، من أن الثقافة الغربية صنعتها أنظمة العقاب أكثر من الإيمان بقيم المجتمع المدني والانضباط الذّاتي، غير أن هذا لا يقتضي الانسياق خلف رؤاها للعالم ، لأن هذا الانسياق يهوي بنا في مكان سحيق.
واسمحلي أن أنقل لكم عبارة أوردتها في كتابي: "السؤال الفلسفي ومسارات الانفتاح" في سياق الحديث عن تجديد مهمة الفلسفة والوصل في هذا التجديد بين البُعد الوجودي والبُعد الأخلاقي أو معرفة الحق والعمل به بعبارة أبو يعقوب بن اسحاق الكندي "بما هو المسلك الفطري الرشيد نحو إعادة قيمة المعنى واستعادة المسوِّغات الوجودية أو أسئلة المعنى الكبرى التي تنتظرها تلك الأرواح المتألمّة لفراغها وحيرتها وتيهها. إن حداثة التقنية قد حقّقت المعجزات في عالم الاكتشافات وعالم العلوم لكنها فقدت في أعماق نفسها مسوغات وجودها، ذلك البعد الذي لايمكن ملؤه إلا بالإرتقاء إلى مستوى قداسة الوجود. أما مُبتغانا في وصل الفلسفة بالحق هو أن نصرف فعلنا الفلسفي عن الإتجاهات الفلسفية التي لا تعترف إلا بالصيرورة في الوجود باعتبارها الثابت الوحيد، ولاتقر إلا بالاندراج المتدوم في التأويل اللامتناهي للأشياء، إننا لا ننكر الصيرورة في الوجود، لكننا نريد وصلها بالغائية حتى تكون صيرورة وجودنا غائية مرادها الوصول إلى الحق، أما إذا بقيت المناحي الفلسفية في التفكير موصولة بمطلق الصيرورة فسنسميها جريانا، لأن الجريان هو الحركة دون هدف ولا مستقر وغاية".
وعن رأيه في القول بنهاية الفلسفة وبروز عصر العلم يقول: كثُر الحديث خلال هذه الأيام عن حديث "النهايات": نهاية الفلسفة، نهاية التاريخ، نهاية الانسان. وفيما يتصل بالفلسفة؛ فإن مقولة نهاية الفلسفة يراد منها موت شكل مخصوص من أشكال التّفلسف بخاصة فلسفات الأنساق التي تدّعي تقديم تفسير كُليّ عن العالم بإدراجه ضمن مقولاتها النّظرية وشبكاتها المفهومية، وفي المقابل إفساح المجال للتّعدُّدية والمنظورية والقيمة التداولية للمعرفة.
غير أنه وفي دوائر الثقافة، فإن المُراد المُستبطن خلف مفردة النهاية فهو: هيمنة نمطية ثقافية على غيرها من أنماط الثقافات الأخرى بدعوى بلوغ المطق أو الاكتمال كمقولة نهاية التاريخ التي تعني الرُّكون إلى النموذج الثقافي الغربي في تمظهره الأميركي.
إن حديث النّهايات مخادع في أكثر أفكاره ومقاصده، لأن التاريخ لم ينْته بعد، ومازالت مساراته في مرحلة مخاض تتجه نحو التوازن الوجودي، فالوجود من التكثُر والانفتاح بما يستحيل اختزاله في نسق مُغلق أو ضمن منظومة فكرية محدّدة، وهذه الخلاصة بخلاف ماكان يتوهّمُه هيجل عندما رفع العقلانية الغربية إلى رتبة الوعي المُطلق بالذّات أين اختتمت معها لحظات تمظهرات العقل في التاريخ.
أما بخصوص موضوعة نهاية الفلسفة التي يتفق عليها العامة في حسّهم المشترك والعقول التقنية في مخابرها، فإنّها عرفت رواجا مع هيمنة الثقافة العلمية، لكنها تراجعت وفقدت بريقها الأدبي بسبب تطوير نظريات النّسبية والإحتمالية في الفيزياء وتلاشي ركائز الفكر العلمي كالإيمان بالانفصال بين القيمة والواقع أو التعارض بين العلم والدين أو اعتبار المنهج التجريبي مسلكا آمنا نحو المعرفة العلمية "اليقينية".
إن الفلسفة اليوم تذكّر حفاري قبرها بأنهم لن يستطيعوا الاستغناء عنها، لأن العلم اليوم هو من أضحى في حاجة إلى تأسيس فلسفي، والأدهش أن الأزمات التي تسبّب فيها العلم كالاحتباس الحراري مثلا؛ فإن الفلسفة اليوم هي من تسعى إلى إصلاح أعطابها، والدّليل على ذلك نشوء فروع معرفية فلسفية جديدة :كالإيكوصوفيا أو الكونيات البيئية التي تهدف إلى تغيير رؤيتنا عن العالم من جهة كونه لا كمكان للسّلب والنّهب، وإنما كحرم نسكن إليه وعلينا واجب الاعتناء به، وتغيير مفهومنا عن المعرفة بخاصة العلمية منها لا باعتبارها أداة من أدوات السيطرة على الطبيعة، بل فنونا لتهذيب النّفس والتحكّم في غرائز المعرفة اللاّمحدودة، وأيضا هناك البيوإيطيقا أو أخلاقيات البيولوجيا، ومدار موضوعها دراسة القضايا الأخلاقية المترتّبة عن التقدم العلمي الحاصل في التقنيات الجديدة في علوم الصحة والحياة، دراسة ترمي إلى اقتراح المبادئ الأخلاقية التي يتطلبها ضبط توجيه ذلك التقدم. فضلا عن أخلايات التجارة وأخلاقيات الإدارة والتّشيط الجلي لفلسفة القيم .
أما رهانات التفلسف في دوائرنا الثقافية فيجوز لنا رصدها في المحدّدات المتوالية:
- إعادة الإعتبار للرؤية الكونية التوحيدية كبديل للمنظورية النّسبية الغربية التي أفقدت الوجود ماهيته ومعناه.
- التوافق والتوازن بين مصادر المعرفة المطلقة و النسبية: أي بين الوحي المُمد بالإجابة عن الأسئلة الكلية و النهائية أو أسئلة القلق الفلسفي (أسئلة المأتي والمعنى والمصير) وبين السُّنن الكونية و النّفسية في عالم الإنسان والكون.
- مركزية نظام القيم في توجيه الحياة الاجتماعية وضبط آلياتها داخليا والتأسيس لإنسان التّعارف خارجيا.
- إعادة الإعتبار للرّحم الكوني أو البيئة بتقديم مشروع متكامل حول حولها.
- الجمع الخصوصية والكونية أو بين الأصالة و التعددية الثقافية.
| |||||
تحسين التَّقبيح وتقبيح الحسن : حول صناعة المحتويات السَّافلة
باتت ظاهرة التَّأثير بواسطة وسائط الإعلام الجديدة تفعل فعلها، وتترك أثرها في الفضاء العام، ويجب بدءا، التّمييز بين التأثير المفيد والخيّر ، وبين التأثير غير المفيد والسّيء؛ فالأصل في هذه الوسائل أن تكون كلها خيرات نافعات وحسنات؛ أي مصالح؛ وأن لا تكون شرورا مضرّات وسيّئات، أي مفاسد. إلا أنّ واقع الحال، هو كثرة المواقع التي تكتسب أهميتها، ليس من القيمة الإيجابية لمضامينها، ولا من المصالح التي يحتاجها النَّاس، بل من سطحيتها وفراغها العلمي وفسادها الأخلاقي، إنَّها تتخفىَّ خلف جمالية الصُّور والتقنيات؛ كي تنشر المحتويات الهابطة، ولعل من مظاهر هذا الهبوط، هو أنها تفصل بين اللغة والقيمة، فالأصل في اللغة أنّها حاملة للمعاني الرَّفيعة، والعبارات الجزيلة، لكنها مع المحتويات التَّافهة و الهابطة، أصبحت مجرد كلام وثرثرة، كما أصبح الكلام في هذه المحتويات كلاما يخدش الحياء ويرفع من أهمية الكلمات المتفحشة والسُّباب والقذف؛ باتت هذه المحتويات في جزء منها حربا نفسية على اللغة الحاملة للقيمة و المعنى، ونشرُ للخصوصيات الذَّاتية والدفع بالمتتبعين إلى كسر الأوامر الأخلاقية مع الذَّات وفي الأ...
تعليقات
إرسال تعليق